مقدمة العساس |
يوافق 22 أبريل/نيسان الذكرى الـ 72 لسقوط مدينة حيفا في يد الاحتلال الإسرائيلي، وما سبقها من مجزرة ارتكبتها عصابة الهاجاناه بحق النساء والأطفال.
ما هي تفاصيل سقوط حيفا؟ وكيف تحاول “إسرائيل” إخفاء تاريخها الأسود؟
هذه المادة المترجمة تعرض نظرة تاريخية على سقوط مدينة حيفا تحت الاحتلال الإسرائيلي وقصف أحياءها العربيّة تحديدا، مستندة على مصادر من الارشيف الصهيوني، تكشف المجازر التي تحاول “إسرائيل” إخفائها حتى الآن.
ترجمة العساس |
لماذا شطبت كتب التاريخ قصف “الهاجاناه” لقلب السوق العربي في حيفا؟
في نادي المسنين في وادي النسناس في حيفا، لا يمكنك التعامل مع التاريخ كدعاية انتخابية، إذ يعتبر عشرات رواد المكان يوميًا النكبة كجزء من تاريخهم الشخصي وسيرتهم الذاتية.
ويروي أحدهم كيف هجر الجنود الإسرائيليون جيرانه تحت تهديد السلاح، في حين يروي الآخر كيف أطلق قانصة الهاجاناه النار على والده القادم من العمل، في حين وصف الثالث الصرة الصغيرة التي حملها معه عندما قرر النجاة بحياته، وجميعهم يذكرون خوف الناس الذين لا حيلة لهم في المعارك.
كما تروي قصصهم الصغيرة تفاصيل قليلة عن اللحظات التي عاشوها، والنظرات التي لحقتهم، وشعور الهزيمة والذل واستعراض القوة على ضعفهم من قبل جنود الهاجاناه، يضيفون أحيانًا بعض التعليقات الهزلية على التراجيديا التي عاشوها، لكن مع هذا، لا يتلاشى الحزن من عيونهم، إذ حفرت هذه السنوات في ذاكرتهم، وتندمج الأصوات والتفاصيل في بعض الأحيان بالصورة في ذاكرتهم.
وتشير أغلب التقديرات إلى أن عدد سكان حيفا بلغ قبل النكبة نحو 61٫000 عربي، وبحسب خطة التقسيم، كان مصيرهم العيش كمواطنين في مدينة مختلطة تحت حكم اليهود بعد انتهاء الانتداب البريطاني.
إلا أن التوتر المتصاعد بين الطرفين وسلسلة الأعمال العدوانية في الأسابيع التي سبقت انتهاء الانتداب البريطاني تسببت في خروج الكثير من السكان العرب من المدينة، حيث كان معظم من غادروا المدينة من المقتدرين ماديًا ومن أبناء الطائفة المسيحية، الذي لقوا الدعم والمأوى من الكنائس في الجليل.
بعد ذلك، بقي في المدينة أقل من 20 ألف عربي فقط، ومثلهم مثل سكان حيفا اليهود، وانتظر الجميع على أحر من الجمر ما سيحدث مع انتهاء الانتداب، وحاولوا المحافظة على حياة طبيعية تحت الرصاص.
في هذا السياق، وصف جمال جريس (أبو بولص)، البالغ من العمر 90 عامًا الحياة حينها بأنها “باتت لا تطاق”، وبرر خروجه من المدينة قبل احتلالها بالقول إن “إطلاق النار والقذائف لم يتوقف، لم يفرق اليهود بين مدني ومسلح، في أحياء معينة من المدينة، وبالذات في الأحياء العربية، كان كل من يمشي في الشارع معرضًا لرصاص القناصة وقذائف المدفعية”.
وسط هذه الأجواء، أخطر قائد القوات البريطانية في مدينة حيفا، يوم 21 نيسان، الطرفين بإخلاء القوات البريطانية من المدينة، باستثناء الميناء وبعض المحاور المركزية التي تساعد الجيش البريطاني في عمليات انسحابه المنظمة خلال ثلاثة أسابيع.
وفي ذات الليلة قصفت قوات الهاجاناه الأحياء العربية، وأغار جنود “حتيفات كرميلي” على هذه الأحياء، مستفيدين من تفوقهم العددي وحسن تسليحهم، كما كانوا مدربين بشكل أفضل ومنظمين أكثر من القوات العربية، وخلال أقل من يوم، سقطت المدينة.
إطلاق نار دون تمييز
كانت معركة قصيرة وساحقة، مع عدد قليل من المصابين لدى اليهود، المقاومة العربية كانت قليلة، كما تفاجأ جنود الهاجاناة من عدد الأسلحة القليل الذي وجدوه في الأحياء العربية بعد مداهمتها وتمشيطها، ثم بعد أسبوع، نشرت صحيفة “بيتأون”، التي كانت الهاجاناة تصدرها، أن “معركة حيفا لا تطابق أيًا من معارك المدن الكبرى في التاريخ العسكري”.
رغم ذلك، تسبب انتصار اليهود في تهجير معظم سكان المدينة العرب، حينها كتب مراسل وكالة يو بي في بيروت بعد يوم من المعاركة، أن “قوارب صيد وسفن صغيرة ومراكب شحن غادرت بيروت لجلب اللاجئين العرب من حيفا، وكان السيناريو مشابهًا لإخلاء دانكيرك”.
وكتبت صحيفة معاريف: “ضباط الميناء البريطانيون يثقون بأن 12-14 ألف عربي غادروا عن طريق البحر، وألفين حتى 4 آلاف عن طريق البر، هناك تناقض بين أرقام اليهود والعرب، ويحاول اليهود تقليص حجم المغادرة”، في حين قال مصدر رسمي يهودي: إن “عدد من خرجوا لم يتجاوز الـ 5 آلاف، في حين قالت القيادة العربية إنهم بلغوا نحو 20 ألف”.
“خفنا”، هذا هو التفسير الوحيد الذي أعطاه حنا مر، صاحب الـ 85 عامًا، وهو أحد رواد نادي المسنين، لهروب آلاف السكان العرب من المدينة.
وروى أنه في يوم احتلال حيفا وصل كعادته للعمل في وظيفته كضابط جمارك في الميناء قائلًا: “طوال ساعات سمعنا صوت الانفجارات وإطلاق النار في الأحياء العربية، وأطلق اليهود النار على البيوت وقنصوا المشاة في الشوارع، وساد الهلع بين الناس”.
وأضاف حنا مر “أذكر الكثير من الناس الذين قالوا لي نشعر أن عالمنا انقلب رأسًا على عقب، كان الميناء المكان الوحيد الآمن للعرب، كنا بحماية الجنود البريطانيين، فرّ كل من استطاع إلى الميناء وحمل معه بعض الحاجيات في حقيبة أو في صرة، وكان الإحساس هو النجاة من الموت”.
وأوضح “أذكر أن زوجين شابين نسيا ابنتهما الرضيعة في البيت في خضم الهلع والرغبة العارمة بالنجاة، أخذوا معهم صرة صغيرة اعتقدوا أنها بداخلها، ووجد أحد الجيران الرضيعة بعد أن سمع صوت البكاء، ضمها مع عائلته وتوجه نحو الميناء، وصل الزوجان إلى مخيم لاجئين في لبنان في حين ترعرعت الرضيعة مع عائلة الجار في عكا، وتعرفت على الفتاة لاحقًا وهي تسكن اليوم في حي الكبابير في حيفا”.
بعد ذلك، انتشرت قصص ووصف هروب آلاف السكان العرب بالقوارب من حيفا إلى عكا ولبنان في الكثير من كتب التاريخ في البلاد خلال السنوات الأخيرة، في حين ادعت حركة “إم ترتسوا” أن “يوم 22 نيسان، تحركت قوات الهاجاناه نحو السوق، وسجل هروب جماعي لآلاف العرب”.
أمّا لمن تناسوا ما حدث في السوق في حينه، وتبنوا ما كتب بروفيسور كارش “ضللت القيادة العربية شعبها وأمرتهم بإخلاء المنازل، سواء من أجل فتح المجال للقوات العربية أو من أجل استخدامها كدعاية لسحب شرعية الدولة اليهودية”.
واستندت إم ترتسو إلى مصدر آخر، هو كتاب المؤرخ بيني موريس “1948”، الذي نشر عام 2010، إذ قالوا إنه صنف في السابق مع المؤرخين الجدد، لكنه “تاب” لاحقًا، ووصفوه بالمحترم والجدي في هذه المجموعة.
كما تطرق موريس في عدد من أبحاثه إلى احتلال حيفا وذكر عدة مرات هروب العرب إلى الميناء، وجاء في الكتاب الذي اقتبست منه إم ترتسو نشرتها الدعائية حول أحداث 22 نيسان أنه: “قذائف المدفعية والراجمات المتواصلة، بالإضافة لهزيمة الفصائل المسلحة والسلطة المحلية ونصر الهاجاناه، أدت لهروب جماعي لمنطقة الميناء التي لا زال البريطانيون يسيطرون عليها. حتى الساعة 13:00 كان عدد من ركبوا القوارب إلى عكا والبلدات الساحلية الشمالية الأخرى نحو 6 آلاف”.
ولخص أسباب الهروب بالقول: إن “معظم السكان تركوا منازلهم لعدة أسباب، أبرزها صدمات المعارك، التي سببها القصف المتواصل للبلدة التحتى، والاحتلال اليهودي واحتمال العيش كأقلية تحت حكم اليهود في المستقبل”.
لكن موريس نشر في كتابه الأول، بعنوان “ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” (نشر عام 1991)، الذي كتب قبل “التوبة”، وصفًا آخر تسلسل الأحداث وألقى الضوء على أمور أخرى، إذ كتب “جاءت أوامر بقصف السوق، رغم اكتظاظه بالناس، مع بدء القصف ساد الهلع والذعر، وهرب الكثيرون إلى الميناء ودفعوا الشرطة جانبًا، واندفعوا نحو القوارب وبدأت موجة الهروب من المدينة”.
رغم ذلك، يعد هذا الوصف جزئيًا جدًا، إذ اقتبس موريس خلاله من كتاب المؤرخ تسادوك إيشيل “أنظمة الهاجاناه في حيفا” (نشر عام 1978 على يد وزارة الأمن)، وكان إيشيل أحد جنود الهاجاناه ونقل معظم عمليات الهاجاناه العسكرية في حيفا من مصدر أول.
ووصف يوم 22 نيسان (انتبهوا إلى الكلمات التي استبدلها موريس بثلاث نقاط) “في ساعات الصباح الباكرة، بلغ ماكسي كوهين مقر الكتيبة أن العرب يستعملوا مكبرات الصوت لدعوة الناس للتجمع في ميدان السوق، بعد أن احتل اليهود شارع ستانتون ويواصلون النزول نحو البلدة التحتى. ومع وصول المعلومات وصلت الأوامر لقائد كتيبة الدعم، إيهود ألموغ، لاستعمال راجمات 3 إنش، المتواجدات بجانب مستشفى روتشيلد، لقصف ميدان السوق، رغم اكتظاظه.
ومع بداية القصف ساد الهلع والذعر، وهرب الكثيرون إلى الميناء ودفعوا الشرطة جانبًا، واندفعوا نحو القوارب وبدأت موجة الهروب من المدينة، واستمر القصف طوال النهار، وتحولت الذعر في ساحة المعركة لحالة من الانهيار والموت”.
“هذا خطأ”، قال إيهود ألموغ الذي قاد كتيبة الدعم، “هذه لم تكن الراجمات 3 إنش، بل مدافع من طراز دافيدكا” وعن باقي التفاصيل قال: “الوصف التاريخي صحيح، صادق وثابت، أذكر تلك الأحداث جيدًا وتلقينًا أمرًا بقصف وتفجير السوق في ساعة اكتظاظه بالناس، دوت أصوات الانفجار العالية ووصل مداها لـ 200 متر” وقال إن القصف في ساعات الظهر امتد لوقت قصير، “لكنه كان فعالًا”.
ويدعي ألموغ، كما إيشيل، أن قصف الراجمات أدى إلى فرار الناس نحو الميناء، ولم يشهد ذلك بعينيه، لكن بحسب أقواله، روى رجال “شاي” (جهاز مخابرات الهاجاناه)، الذين زرعوا بجانب بوابات الميناء ما حدث في حينه “واصل اليهود طوال الصباح قصف العرب في وادي النسناس والبلدة القديمة من الأعلى، كان القصف عشوائيًا وشمل المدافع والراجمات ونيران القناصة وجهت جميعًا على النساء الأطفال الذين لجأوا إلى الكنائس أو من حاولوا الهرب … من خلال البوابات التي تصل إلى الأرصفة … ازدحم عجائز ونساء وأطفال مذعورون ومتعبون عند بوابة الميناء الشرقية، وأصيب اثنان من الضباط”.
واقتبس موريس كذلك في كتابه الأخير أقوال مراقب بريطاني وصف فيها القصف بأنه “عشوائي وبدون هدف محدد يثير الاشمئزاز”. وبالإضافة للإشكالية الأخلاقية التي يكشفها وصف قصف سوق مكتظ بالناس، تشير شهادة إيشيل، التي تحظى بدعم ألموغ، إلى أن القصف جاء بناء على أوامر قيادة الهاجاناه وبعلمها، أمّا من هذه القيادة وكم عددها، لا يمكن المعرفة حاليًا. ولم تكشف كل الوثائق التي تتحدث عن تلك الفترة وبقيت سرية في أرشيفات الجيش، لذلك لا يمكن الجزم إذا ما كان القصف جزءًا من سياسة عامة هدفها تهجير العرب، أو أنه مجرد حادث آخر من حوادث كثيرة مماثلة تم توثيقها في تلك الفترة.
المصادر:
(1) “هآرتس”: https://bit.ly/2xQsNBY
سقوط حيفا: على الأنقاض صعد الاحتلال (جـ 2)
View this post on Instagram