مقدمة العسّاس | 

تقدم “إسرائيل” نفسها عالميًا كالدولة الديموقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط التي يحكمها القانون وتكون السلطة دائمًا له، إلا أنه بنظرة أولية على هذا التصريح، ينكشف أن “إسرائيل” ضمن قلة قليلة لا تتجاوز أصابع اليد التي لا يوجد لديها دستور، كما أن تبرير عدم وجوده تقدمه أيضًا بشكل ضبابي ومنقوص.  

في هذهِ المادّة المترجمة عن عدة مصادر إسرائيلية، سنحاول تسليط الضوء على إحدى أهمّ القضايا السياسيّة/ القانونيّة المطروحة في دولة الاستعمار الاستيطانيّ “إسرائيل”، وهي قضيّة تبنّي دستور، أي وضع وثيقة قانونيّة الأعلى في البلاد.

شكّلت هذهِ المسألة حوارًا وجدلًا واسعًا، وقُدمت لهذهِ المسألة عدّة طروحات وأسباب وأراء قانونيّة تُحاول الإجابةِ عن سؤال الدستور في “إسرائيل”، إذ أن إحدى مميّزات الدولة الحديثة هو الدستور القانونيّة، الذي يعبّر عن الترتيبات القانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وغيرها في رقعةٍ جغرافيّة محدّدة، وبدورهِ مُرشدًا لجميعِ السلطات الفاعلة في الدولة.

إعداد العسّاس |

في إجابةِ مناحيم بيجن في عام 1956، عن سؤال “لماذا نتجنب كتابة الدستور؟”، حينها لم يكن بعد رئيسًا للحكومة، بل نائبًا في الكنيست “الإسرائيليّ” عن حزب “حيروت” من يمين الخارطة السياسيّة:

يقول بيجن “من يريد أن يحاول شرح سبب تفادينا لهذا العمل الدستوري، فليس أمامه خيار سوى محاولة الذهاب إلى مدينة أخرى، إلى بلد آخر، وخاصة إلى فترة أخرى في الماضي البعيد. لنتخيّل أننا في أثينا القديمة اليوم، عند تناول مشكلة الدستور سنجد موقفين، إما من موقع رجل الدولة أو الديماغوجي.. الديماغوجي، طالما أنه يتمتع بالأغلبية، يريد أن يضمن لنفسه يد حرّة في البلاد، ولا يريد أن يتخيّل أنه سيكون يومًا ما أقلية”.

ويضيف “أن رجل الدولة هذا لا يريد عناصر ثابتة، إذ أنّ السلطة بالنسبةِ إليهِ كالفريسة ولا يريد أن يتركها، بينما يعرف رجل الدولة أن الأغلبية والأقلية في البلاد تتغير ومتقلّبة، كونه أقلية فإنه يقبل قانون الأغلبية، لكنه يعلم أنه يحق له المطالبة بحقوق معينة لنفسه”.

ويوضح أن رجل الدولة هذا “على استعداد لقبولهم على افتراض أنه عندما يكون في الأغلبية، فإنه سيمنح الحقوق للأقلية، هذا هو الاختلاف فيما يتعلق بالدستور بين هذين النوعين”.

إضافة إلى ذلك، يشير بيجن إلى أن “العُطل الأساسيّ لكتابةِ الدستور، مرتبط في الحزب الحاكم، والعقليّة السياسيّة القانونيّة التي تحكمهم.

 أمّا في دراسةٍ أخرى كتبها المُحاضر الباحث في مجال القانون يهوشاع سيجف، يعتبر أن عدم الاتفاقّ بينَ الأحزاب والشرائح السياسيّة يميّز الحقل السياسيّ في “إسرائيل” مما يجعل من كتابة دستور، كوثيقةٍ سياسية قانونيّة عليا أمرًا مستحيلًا، وهذا نفسه الذي يوضح وجهة نظر بيجن بشكل أكبر.

ويرى سيجف أن سمة عدم الاتفاقّ هي الغالبة عند “الإسرائيليين” اليوم وفي الماضي، وهي ما تعيق كتابة وتبنّي دستور، ويعكس ذلك على تاريخ الحركة الصهيونيّة، وتأسيس دولة “إسرائيل” حيثُ أنها منذُ البداية قامت على عدم الاتفاقّ ثلاثة أمور أساسيّة إضافة للاختلاف على معانيها وتطبيقاتها وهي: القوميّة اليهوديّة، والدين اليهوديّ، والأرض اليهوديّة.

كما أن أيّ حسم دستوريّ في إحداها قد يهدم الصهيونيّة بأكملها، بالإضافةِ إلى تهديد بحرب ثقافيّة ودينيّة بينَ يهود متديّنين والحريديم من جهةٍ، ويهود علمانيين وليبراليين واشتراكيين من جهةٍ أخرى.

كما يشير سيجف إلى اعتقاد البعض أن قادة الجالية اليهودية في البلاد كانوا يخشون بصدق حربًا ثقافية بين الدوائر العلمانية والدينية قد تتطور إلى مواجهة مع الأحزاب الدينية، التي قد تُعرّض مشروع “بناء الأمة” للخطر في ذلك الوقت.

ويقول “يعتقد البعض الآخر أن بن غوريون توصّل ببساطة إلى استنتاج مفاده أنه سيُمنح مزيدًا من المرونة الحكومية بدون دستور، على أي حال، كانت هذه خلافات جوهرية حالت دون اعتماد دستور مكتوب مع قيام الدولة، أعطى كل فصيل وفصيل تفسيره الخاص لما يمكن تسميته بالشروط المشروعة لدولة يهودية وديمقراطية”.

بناءً على ذلك، فإن فشل “إسرائيل” في تبني دستور مع قيام الدولة يتم تصويره في ضوء فئويّ، إذ اكتسبت الاعتبارات الحزبية الضيقة وقصيرة المدى وزنًا كبيرًا وحالت دون اعتماد الدستور، وكان كلّ فصيل يتطلّع إلى تعزيزِ مصلحته على حسابِ مصلحة المجتمع ككلّ.

بهذا الخصوص، قال الدكتور القانونيّ، شاؤول شاريف، في سياق الخلاف على وجود دستور في الدولة، وهل “قوانين الأساس” من الممكن اعتبارها قوانين دستوريّة: إن “الخلاف بينَ التيّارات المختلفة اليساريّة الليبراليّة من جهةٍ واليمينيّة الدينيّة من جهةٍ أخرى ما زالَ يحكم المسألة الدستوريّة، إذ أنهُ لا يوجد اتفاقّ، لأننا نستطيع أن نجد قوانين أساس سُنتّ على يدِ المدافعين عن حقوق الإنسان في عام 1992، ونجد لاحقًا قوانين أساس، سنّتها حكومات يمينيّة لذا يلخّص جوهر عدم الاتفاقّ كما يلي:

عند سؤال مؤيدي ‘الثورة الدستورية الكلاسيكية’ في الوقت الحالي عما إذا كان هناك دستور إسرائيلي، فإن ردّهم يتكوّن من إجابتين؛ نعم- القوانين الأساسية التي تم سنها في عام 1992 هي دستور يمكن فيه إلغاء قوانين الكنيست.

أمّا الإجابة الثانية بالطبع ستون لا، لأن القوانين الأساسية التي سنّت في السنوات الأخيرة (وتلك التي تمّ سنها قبل عام 1992) ليست دستورًا، لأنه فوقها توجد قيم أكثر أهمية، لا يُعطى تعريفها للجمهور وممثليه بل للقضاة فقط.

هكذا اتضحّت لنا الإجابة البنيويّة عن لماذا لا يوجد دستورًا في “إسرائيل”، وهو عدم القدرة على الإجماع على المسائل الأكثر حيويّة لترتيب القضايا السياسيّة القانونيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

بالعودة إلى المُحاضر الباحث في مجال القانون يهوشاع سيجف يتضح أن الحاجة إلى دستور “هي ذاتها الحاجة إلى حماية حقوق المواطن، وتبنّي المواطنة وفقًا للتقاليد والأدبيّات الليبراليّة وجاءت هذهِ الادعاءات على يدِ التيّارات المؤيدة لاعتماد دستور”.

ويقول سيجف: “الحجج المؤيدة لاعتماد الدستور هي الحاجة إلى حماية حقوق الإنسان، لذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت حماية حقوق الإنسان، الأضحية على مذبح التعاون بينَ التيّارات المختلفة، وليس فقط الدستور المكتوب والرسمي؟ وقد شكّك العديد من علماء السياسة في التزام الديمقراطية البرلمانية الإسرائيلية بالقيم الليبرالية والديمقراطية”.

ويعتبر أن الثقافة السياسية للاستيطان لم تحترم بصدق حقوق وحريات المواطن، ولم تلتزم بهذه القيم.

وفي الواقع، يُنظر إلى فشل الكنيست الأولى في تبنّي دستور على أنه دليل حاسم لإثبات هذا الادعاء، وعليه، فإن التكتيك الدستوري المتمثل في “قرار عدم اتخاذ القرار” يُصوَّر على أنه معادٍ للحريات والحقوق المدنية”.

وهذا وفقًا للتنظيرات النقديّة على أن “إسرائيل” لا تستطيع بنيويًا اعتماد حقوق المواطنة الليبراليّة الحديثة، بسببِ أزمةٍ تكمن في صُلب تأسيسها.

المصادر:

(1) “كلية هرتسوغ للدراسات اليهودية”: https://bit.ly/3dNjN2d
(2) “تابوز”: https://bit.ly/3DFv3YK
(3) “ماكور ريشون”: https://bit.ly/3oAZFpX