مقدمة العسّاس |

طالما عملت “إسرائيل” على تجهيل الفلسطينيين في أراضي 1948 لضمان عدم تطورهم تعليميًا، لكن كيف أدركت منذ زمن طويل أن هذا سيشكل تهديدًا ومشكلة ليس لها حل تهددها مستقبلًا؟ وكيف أدارت هذا النقاش الهادف للتجهيل الممنهج؟

هذه المادة المترجمة عن صحيفة هآرتس تكشف البروتوكولات الاستثنائية ومحاضر الاجتماع، التي سمح بنشرها، والحجج التي طرحتها المؤسّسة الأمنيّة لقمع الفلسطينيين في أراضي 1948.

ترجمة العسّاس |

عندما يتعلق الأمر بموقف “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين في أراضي 1948، فإن سياسة الكشف عن الوثائق التاريخيّة (محاضر الاجتماع في أغلبها) من الأرشيف تحدّدها معايير عدة، ويدور أحدها حول الافتراض القائل بأن فضح توثيق السياسات غير المتكافئة والعنيفة يمكن أن يضرّ بصورة “إسرائيل” وأمنها، بل قد يؤدي إلى ردّ فعل عربي إقليمي من شأنه أن يُعرّضها للخطر.

بما أن موقف “إسرائيل” طويل الأمد تجاه الجمهور العربيّ قمعيّ بطبيعته، فلا عجب أن تكون الوثائق المفتوحة للمراجعة جزئية للغاية، بالتالي فإنّ محاولة تقديم وصف مستمر لمواقف أصحاب المناصب الكبيرة أعضاء جهاز الأمن العامّ [1] على مرّ السنين تكاد تكون مستحيلة.

(1، جهاز الأمن العامّ هو ما يُختصر بكلمة “شاباك” باللغة العبريّة، أي جهاز المُخابرات العامّ).

لكن هناك حالتان تم فتحهما مؤخرًا للمراجعة من قبل أرشيف “إسرائيل”، وتسمحان بإلقاء نظرة غير عادية على المواقف الأساسيّة لرؤساء جهاز الأمن العامّ تجاه الفلسطينيين، وتجعل من الممكن التعرف على المبادئ التي استًرشِدَ بها.

البروتوكول الأوّل الذي كُشِفَ النقاب عنه بناءً على طلب معهد “عكفوت”، كان عنوانه: “ملخّص اجتماع حول شؤون الأقليّات العربية في إسرائيل”، يُلخّص الاجتماع الذي عُقِد في فبراير 1960 بناءً على طلب أوري لوبراني، وهو مستشار رئيس الوزراء دافيد بن غوريون للشؤون العربيّة.

وكان لوبراني قد استدعى رؤساء الأجهزة الأمنيّة الذين يتعاملون مع “القضية العربية”، وهو مفهوم اصطُلحَ عليه في المناقشات في تلك السنوات.

أمّا البروتوكول الثاني، “مبادئ توجيهية للسياسة تجاه الأقليّة العربيّة في إسرائيل” من تموز/يوليو 1965، ويحتوي على عشرات الصفحات التي تحمل مُداولات كِبار المسؤولين الحكوميين ورؤساء المؤسّسات الأمنيّة.

كان الغرض من هذا البروتوكول تلخيص نتائج 17 عامًا من السياسة التي مرّت منذ عام 1948 تجاه الفلسطينيين في أراضي 1948، والتوصية بالسياسة التي يجب اتّباعها على المدييْن القريب والبعيد.

ويكون البروتوكولان صورةً واضحةً: كانت المؤسّسة الأمنيّة أداةً طيّعة في أيدي من هًم في السّلطة الذين أرادوا فصل المُجتمع العربي وإخضاعه لليهودي. كما زعم قادة النظام أنّه في السنوات التي تلت الحرب، لم تتخذ الحكومة إجراءات كافية لقمع تطوّر المجتمع العربيّ.

كما سُمِع خلال المُناقشات آراء رغبت في استغلال حرب مستقبليّة بغرض إبعاد المدنيين الفلسطينيين في أراضي 1948.

على سبيل المثال، وفي الجلسة التي عُقِدَت عام 1960، صرَّح المُفتِّش العامّ للشرطة، يوسف نحمياس، أنه “يجب الحفاظ على مُستوى مُنخفِض قدر الإمكان للوسط العربي حتّى لا يتمكّن من فعل أيّ شيء”، مضيفًا “لم نبلغ حدود القهر بعد، وعلينا ألّا نفتح الشهيّة العربيّة”.

أمّا رئيس جهاز الشاباك، عاموس مانور، رأى في النظام الحمائلي التقليديّ ميّزة للحكومة الإسرائيليّة، إذ قال: “علينا ألّا نقوم بتسريع السيرورات بأيدينا، يجب أن نُحافِظ على الأُطُر الاجتماعيّة القائمة كأداة سلطويّة مُريحة”.

وحذّر مانور من أنّ العرب المُتعلّمين سيتحوّلون لمُشكِلة، موضحًا: “يجب ألّا نقلق طالما أنّهم أنصاف مُتعلّمين”.

وعلى حد قوله، يجب على “إسرائيل” أن تحافظ على “النظام الاجتماعي التقليدي” لأنه “يبطئ وتيرة التقدّم والتنمية”، وكلما ازدادت عمليّة التقدّم العربيّ بشكل أسرع ستُواجهنا مشاكل أكثر. في غضون 40 عاما سيكون لدينا مشاكل لا يمكن حلّها”.

في حين كان لدى رئيس الشاباك مانور تفسيرًا اجتماعيًا لسبب منع الفلسطينيين في أراضي 1948 من الحصول على التعليم، قائلًا: “ليست البروليتاريا من تصنع الثورات، بل أولئك المُثقّفون المُتخمون”.

إضافة لذلك، قال مانور: “يجب تفعيل جميع القوانين، حتّى لو لم تكُن ودّيّة. علينا التفكير في التدابير غير القانونيّة عندما لا يكون لدينا خيارات، ويجب الحفاظ على النظام دون أخذ الرأي العام بعين الاعتبار”.

ذات البروتوكولات تضمنت أقوال أهرون شالوش، الذي كان رئيس قسم المناصب الخاصّة في الشرطة في الجلسة المعنيّة: “ممكن أنّ تقويتنا وتدعيمنا للمبنى الاجتماعيّ المُحافظ لدى العرب هو تصرّف رجعي، لكن.. بواسطة هذا الإطار بإمكاننا إحكامُ السيطرة بشكل جيّد في الأحياز العربيّة”.

في الخارج، عادةً ما تُصَدّر “المسألة العربيّة” على أنّها مسألة أمنيّة، لكن في جلسة عام 1965، سَمحَ المُشاركون لأنفسهم التطرّق للموضوع بشكلٍ مُختلف.

يوسف هرملين، الذي خلف مانور لاحقًا في رئاسة الشاباك، قال بشكلٍ واضح: “مصلحتنا هي الحفاظ على “إسرائيل” دولةً يهوديّة. هذا هو الإشكال الرئيس. عندما نقول الأمن فإننا نعني ذلك فعلًا”.

بينما أوضح يهوشاع فربين، وهو قائد الإدارة العسكريّة، للمشاركين في الجلسة: “لا توجد مشكلة عامّة ليست أمنيّة”.

أمّا بنحاس كوفل، المُفتّش العامّ للشرطة، دعم ما قاله سابقوه: “يجب النظر لكلّ نشاط كهذا ليس من زاوية ما الجيّد للعرب، بل ما الجيّد لليهود”.

في حين انضم موشيه كشتي، المدير العام لوزارة الأمن، أيضًا لسابقيه مُدعّمًا بالأمثلة حول النمط “الليبراليّ” المُكرّر موضّحًا: “أنا مع لبرلة الاقتصاد. لكنّ لسببٍ ما أنا ضد اللّبرلة عند العرب”.

وسط ذلك، كان الصوت النقديّ على غير العادة من نصيب شموئيل طوليدانو، وهو المُستشار لشؤون العرب، الذي أقر بوجود مدرستين في التعامُل مع المسألة العربيّة، وانتقد المدرسة الغالبة، التي ترى بكلّ مشكلة عامّة مُشكلةً أمنيّة. لكنّ موقفه كان في الأقليّة.

مُنذ بداية الجلسة وحتّى نهايتها، نوقشت مسألة سياسات ترحيل الفلسطينيين في أراضي 1948، كما يوضح التوثيق التاريخي سياسات ومُخطّطات فعليّة لطردهم طغت لدى قسم من صُنّاع القرار حتّى العدوان الثلاثي عام 1956.

يظهر الإمعان في البروتوكول أنّ أفكارًا مُماثلة استمرّت في التداول حتّى سنوات الستين.

بهذا الشأن، قال رؤوبين ألوني، نائب مُدير دائرة أراضي “إسرائيل”، وهو الجسم الذي يلعب دورًا مركزيًا في الحفاظ على التمييز في تقسيم الأراضي في البلاد: بشكلٍ واضحٍ لا يقبل التأويل: “نظريًا، لو كان بإمكاننا التصرّف كما يحلو لنا ماذا كُنّا سنفعل؟”.

 يُجيب ألوني: “تبادل سُكّان”. وفق أقواله في الجلسات، فهو مُتفائل بما فيه الكفاية، أنّه سيأتي يوم، بعد 10، 15، أو 20 سنة، تُتاح فيه الفُرصة، مع حرب أو حالة تُشبه الحرب، ويُصبح الحلّ الأساسي هو تهجير العرب. وختم قائلًا: “أنا أعتقد أنّ علينا التفكير في الموضوع ليصبِح حلًّا نهائيًا”.

تحدث مُمثّل الشُّرطة أهرون شالوش، أيضًا عن التهجير، ومُباشرةً وضّحَ قائلًا: “في هذا العمل لدينا يهوديّ نجح بطرد مدينة كاملة (بعد انتهاء الحرب 1948)، المجدل عام 1949-1950″[3].

(3، يقصد مدينة عسقلان التي تحوّلت غداة التهجير لأشكلون)

 واستذكر مُحاولته خلق “جو هجرة في يافا”، وحسب أقواله لا يمكن التعلّق اليوم بمُخططات كهذه.

بدوره تمسك هرملين، الذي ترأس الشاباك خلال النقاش كما الآخرين بالتوجّه القائل إنّ: “الأقليّة العربيّة” لن تكون موالية للدولة في يومٍ من الأيام.

ووفق أقواله: “الحلّ هو تهجير العرب، لكن في أيامنا هذا حلّ نعرفه جميعنا لكنّه لم يعدّ حلًّا واقعيًا”،

من جهته، قال عزرا دانين، مُستشار شؤون العرب في وزارة الخارجيّة، الذي عمل في هذه المسألة عشرات السنوات: إنّ “المسألة ليس فقط عدم جِدّية مُخططات التهجير بفعل الواقع، لكن أيضًا مسائل من عالم الأخلاق، كيف سنطلب مُساعدة هذا العالم الذي نحتاجه، ونحن نقوم بأعمال يقوم بها الفاشيّون أو الإيرانيّون؟”.

 وتساءَل “كيف يُمكن للحكومة أن تقبل عرضًا شيطانيًا حول تبادُل سُكانيّ؟”، ووضّح أنّ “الوصول للتبادُل السُكّانيّ لا يكون بفعل الرفاهية، بل بالتفاهم”.

هنا تدخل مائير عميت، وهو رئيس الموساد وقال: “منذ عام 1948 وحتّى 1966 كان الحُكم العسكري هو الذراع المركزيّ في قمع الفلسطينيين (في أراضي 1948)، اعتقد أنّ السياسات كان مُهذّبة زيادةً عنِ اللزوم ويجب الضرب بيدٍ من حديد”.

 وأضاف: “لدينا سوط، نُحدث بهِ جلبةً كبيرةً، لكننا نضرب الهواء، وتحت السطح ينمو كلّ شيء”، قائلًا “من فضلكم إذا كان سوطًا إذًا لنضرِب”.

بينما فرابين، وهو قائد الإدارة العسكري وأحد خُبراء “المُشكلة العربيّة” في البلاد، “لم يكُن من هؤلاء الذين يتكلمون هباءً، المُشكلة الماثلة أمام السُلطة اليهوديّة هي أن العرب في هذه الأيام ليسوا العرب قبل 17 سنةً، جيل الصحراء في طريق الزوال، وأولئك الذين ضايقناهم، الذين أخذنا لهم بيوتهم، أولئك هم الجيّدون، معهم كُنّا مُتّفقين”.

وفق أقواله، فإن الأسوأ على الإطلاق هم الذين وُلِدوا في أوساط عقد الأربعينات. ويُضيف: “نحنُ هجّرنا نصف مليون عربيّ، أحرقنا بيوتًا، سطونا على أرضهم ومن ناحيتهم لم نُعِدها لهم، أخذنا أراضي.. نحن نُريد أن نقول لأنفسنا: “أنتم أيّها العرب سامحونا على ما اقترفناه”، لكن الأراضي سرقناها ومُستمرون في السّرقة، ومن ناحيتنا هذا “تحرير الجليل”.

 كما يُضيف: “خلق حرب كارثية في ظلّها يُهجَّر العرب هذا ليس في الحُسبان لكن لا نعلم ماذا يُخبّئ لنا المُستقبل”.

ولم يكن جميع المُشاركين في الجلسة على ذات الموقف، لكن بالإمكان القول إنّ جميعهم وافقوا أنّ “لا حديث عن المُساواة”.

دانين على سبيل المثال، كان نقديًا تجاه المواقف الخارجة عن المألوف في الجلسة. وأيضًا شموئيل بن دور، نائب المُدير العامّ لديوان رئيس الوزراء، تساءل: “كيف يُمكننا الحديث عن جميع الوسائل التي تحدّثنا عنّها هُنا في الجلسة وفي نفس الوقت نتحدّث عن المُعاملة العادلة مع المواطن؟”.

فيربين رفض النقد المُوجَّه لقسوة الحُكم العسكري: “إذا كان هُنالك من يُضايق العرب فهي دولة “إسرائيل”… الييشوف[4] والمؤسّسات هما أكبر المعادين للساميّة تجاه المُشكلة العربيّة.. إذا كان هُنالك من هو قاسٍ فعلًا في الموضوع العربيّ، فهو الوجود كُلّه.. الييشوف يُضايقهم وسيُضايقهم سنواتٍ كثيرة”.

(4، الييشوف: تجمع سُكاني يهودي مُمركز في مكان ما بشكلٍ دائم).

بعد سنة ونصف من هذه الجلسة، في ديسمبر 1966، أُلغِيَ الحُكم العسكريّ، وأدى الإلغاء لإزالة بعض القيود والحدّ من الرقابة المفروضة على مواطني “إسرائيل”، وتوسيع هامش المُساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في أراضي 1948، إلا أن ذلك لم يكُن كافيًا.

من الواضح أنّ كثيرين من المواطنين اليهود اعتقدوا أنّه مع الإلغاء المُبرَّر للحُكم العسكريّ، وصلنا لنهاية عصر سياسة التمييز تُجاه العرب في أراضي 1948.

 لم يتغيّر الأمر على هذا النّحو ولم يُصبح على هذا الحال، على أرض الواقع، لا تزال وجهة النّظر التي عبّر عنّها رؤساء الأجهزة الأمنيّة مُستمِرّة في تعريف علاقة الدولة مع السكان الفلسطينيين في أراضي 1948.

بقيَ فقط أن ننتظر عشرات السنوات كي نعرف ماذا يُفكّر رؤساء الأجهزة الأمنيّة أبناء هذه الحقبة عن الفلسطينيين في أراضي 1948.

المصادر:

(1) “هآرتس”: https://bit.ly/3wAOCj8