مقدمة العسّاس | 

عندما أعلنت “إسرائيل” الإغلاق وحظر التجول لمواجهة فيروس كورونا، ربما كان القرار متوقعًا حال معظم دول العالم، إلا أن القليل يتذكرون أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 عانوا من وضع مماثل في الماضي، حينما وضعتهم السلطات الإسرائيلية داخل أسوار من الأسلاك الشائكة، ليس لسبب سوى هويتهم، حينها اليهود أنفسهم مارسوا نفس الأسلوب القمعي الممارس ضدهم من قبل النازية.

هذه المادة المترجمة عن صحيفة هآرتس تكشف تفاصيل احتجاز الفلسطينيين في أراضي 1948 ضمن “غيتوهات” محاطة بالجدران والأسلاك الشائكة وذلك بعد حرب النكبة.

ترجمة العسّاس |

الوثائق التي تم اخفاؤها في أرشيف “إسرائيل”، تظهر كم هو القليل المعروف على المناطق المُعرّفة، التي أقيمت للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، حتّى أنّه كان هناك من سمّاها “معسكرات التركيز”.

يُخيّل أن الحجر ومنع التجّول الذي فُرض في “أيام كورونا” صار مثل ذكرى بعيدة، إلا أن القلائل فقط يعرفون أن واقعًا كهذا كان مصير الكثير في “إسرائيل”، حتّى أن الأمور في الماضي أُديرت بشكل أكثر عدوانية، من خلال استعمال جدران من الأسلاك الشائكة وتحديد مناطق سُميت بـ “الغيتوهات” ومعسكرات التركيز.

فرض حظر التجوّل وإحاطة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 بالجدران، بدأ فورًا بعد احتلال المدن المختلطة والعربيّة في حرب النكبة عام 1948، كما أبقت المعارك آلاف السكان العرب تحت السيطرة الإسرائيليّة، إضافة إلى أن معظم سكان البلاد العرب لم ينشطوا ويشاركوا في الحرب، أما الذين بقوا فقد كانوا “جزءً صغيرًا من مجتمع مهزوم وضعيف غير مُمثّل وخائف”.

الشهور الطويلة بعد احتلال المدن كانت امتحانًا صغيرًا لمستقبل العلاقات التي وجدت بعد عام 1948 على نفس الأرضي، حيث في حيفا التي احتلت في شهر نيسان/ أبريل 1948، بقيّ ما لا يزيد عن 3500 فلسطيني من أصل ما يقارب 70 ألفًا عاشوا فيها وقتًا قليلًا قبل ذلك.

أمّا في يافا، التي احتلت في 13 أيّار/ مايو، سكنها قبل الحرب رقم مشابه من الفلسطينيين، وبقي فيها ما يقارب 4 آلاف فقط، بينما في الرملة واللّد، اللتان احتلتا في تمّوز/ يوليو 1948، سكن فيهن حوالي 35 ألفًا من السكان، وبعد الاحتلال بقي ما يقارب الألفين فقط.

في المدن الأخرى التي احتلت مثل طبرية وصفد وبيسان وبئر السبع لم يتبقى فيها عرب قطعًا، وخلال وقت قصير الغالبيّة العظمى من الفلسطينيين أي (حوالي 85%) ما يقارب 160 ألفًا من العرب الذين تواجدوا ضمن مساحة إسرائيل وجدوا نفسهم في نهاية الحرب تحت حكم عسكري، خاضعين لحظر دائم ولحكم من موافقات التجوّل والتنقل.

غالبية التوثيق لتلك الأيام موجود في مئات الملفات لوزارة الأقليّات، التي ترأسها الوزير بخور شالوم شطريت، بعد ذلك أغلقت الوزارة في منتصف 1949، بعدما عملت كثيرًا تحت تقييدات صعبة، لتحسين وضع العرب الذي ظلّوا.

كما أن التوثيقات ذات الأهميّة الكبيرة ما زالت غير متاحة لاطلاع الجمهور في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش، وفي شهادات وملفات أخرى من تلك الفترة، تحديدًا التي أتيحت للاطلاع على مدار سنوات، نجد أحيانًا محاولات لإخفاء وغربلة المصطلحات والتصريحات غير المريحة للأذن اليهوديّة بالذات، هذا بالإضافة إلى أن محاولات الإخفاء هذه لا تنبع من حاجة أمنيّة إنما بهدف الدعاية الإعلاميّة فقط.

مثال صريح لمحاولات الإخفاء هذه يظهر بروتوكول النقاش من ديسمبر/ كانون الأول 1948، للجنة الوزراء للأملاك المتروكة.

 في وقت الجلسة، التي ناقش فيها الوزراء تركيز سكان اللّد العرب في حارات مخصصة بهدف إسكان المدينة بالمهاجرين اليهود، صرّح مدير وزارة الأقليات، غاد ميخنس، بأنه “يفترض أنّه لم يعد إمساك السكان العرب ضمن مخيمات التركيز المخصصة مبرّر أكثر”.

مؤخرًا تم إخفاء هذه الجملة على يد أرشف الدولة في الملف الذي تحفظ فيه البروتوكولات لجلسات اللجنة، والمنطق واضح: للسكان العرب في دولة “إسرائيل” ليس لهم حقّ بمعرفة ماضيهم.

باقتفاء الأثر حول مصير سكان المُدن التي احتلت، يظهر ذات السياسات، إذ أقيمت فيها غيتوهات، وهذه الكلمة كانت صعبة للهضم حتّى آنذاك، إضافة إلة أن عنوان أحد الملفات في أرشيف الدولة، الذي استعمل هذه الكلمة المشحونة، حاول توفير بديل معقول أكثر وهو: “تحويل العرب لمنطقة أمنيّة”.

في كل مكان تواجد فيه فلسطينيو الأراضي المحتلة عام 1948، أديرت الأمور بصورة مشابهة، ومع زيارته لحيفا بعد احتلالها، أمر رئيس الحكومة الإسرائيلي حينها، دافيد بن غوريون، بتجميع العرب الذي بقوا فيها في وادي النسناس (للمسيحية)، وفي وادي الصليب (للمسلمين). حتّى بداية تمّوز/ يوليو، حُدّد لفلسطينيين في أراضي 1948 إلزامهم للانتقال لمكان سكنهم الجديد، بعد ذلك بلّغ يوسف فِشيتس، وهو عضو حزب العمال متحدون، ومن رؤوس القسم العربي للحزب، الذي تواجد في لبّ الأحداث في حيفا آنذاك، عن فوضى عارمة حدثت على أثر القرار قائلًا: “ليس بالإمكان الحفاظ على الأملاك والشُقق السكنيّة غير نظيفة وليس هنالك ماء أو كهرباء”.

 بعض اليساريين العرب نقل عنهم تصريحهم “أنّ هذه العمليّة سياسيّة – عرقيّة وليست عسكريّة، من نابع إنشاء غيتو عربي في حيفا”.

عارض يوسف  فشيتس بشدّة تركيز العرب بمناطق محدّدة، وقال “إن تركيز العرب هو العمل الأهم في تاريخ دولة “إسرائيل” تجاه العرب. من خلاله سيتمّ الإقرار إن كانت دولة “إسرائيل” ستكون ديمقراطيّة أو دولة إقطاعية مع عادات العصور الوسطى وقوانين نورمبرغ”.

بعد ذلك مُنع العرب فعلًا من السكن حيثما تواجدوا، وتم تجميعهم في وادي النسناس، كما أنه في يافا أيضًا تقرّر نقل سكن العرب”.

بهذا قال الحاكم العسكري، مئير لنيادو، لأعضاء اللجنة العربيّة في المدينة تموز 1948: “من المستحسن أن يكون هنالك مناطق مخصّصة لليهود ومناطق للعرب”.

بينما احتج مدير قسم معالجة وتنظيم العلاقات مع الأقليّات في وزارة الأقليّات، موشيه أرم، احتجّ أمام وزير الأقليّات شطريت، على تركيز العربي في حي عجمي في الوقت الذي يحيط الحيّ حارات يهوديّة من أربع جهات.

وذكر أرم أنه ليس هنالك “أي تهديد أمني للمدينة وضواحيها، مضيفًا “يستعدون لإحاطة حي عجمي بجدار شائك يفصل بين الحي العربي والأحياء اليهوديّة، وتنظيم كهذا يجعل للحي شكل لغيتو مغلق ومحاط، ومن الصّعب المضيّ مع هذه الفكرة، التي توقظ مشاعر فظيعة”.

وقال أرم إنّ إقامة الغيتو تحدّد ما يلي: “مجددًا نحن من نزرع بذلك بذرة مليئة بالسمّ، في قلب السكان العرب، فيتو بجدار أسلاك شائكة، غيتو يفصل عن البحر. أهكذا سيكون الخطّ السياسي لنا؟”.

المؤرّخ يوئاف غلبر كتب، في واحد من الكتب الأكثر شموليّة عن حرب النكبة، واسم الكتاب “سيادة ونكبة”، أنّ فكرة إحاطة الحيّ العربي في يافا ألغيت، لكنّ ذلك الأمر غير صحيح، إذ الحاكم العسكري لنيادو كتب أنه “يفكّر بإمكانيّة تقليل الأسلاك الشائكة وإعطاء إمكانية التنقل بحريّة أكثر للعرب كي لا يشعروا أنفسهم بمعسكر محجور”.

وأضاف ان حي عجمي أحيط بجدران على مدار شهور طويلة، وفي الحقيقة، وزارة الأقليّات، بصراع مع الحكم العسكري، صرّحت في شباط 1949 أنّها ما زالت تحاول الحصول على تراخيص من أجل أن يستطيع السكان العرب “الخروج من الأسلاك الشائكة”.

أحد سكان المدينة، واسمه إسماعيل أنو شحادة، يثول “إنهم أحاطوهم بأسلاك شائكة وفي ثلاثة بوابات، استطعنا الخروج من المنطقة فقط من أجل العمل في أحد البساتين المحيطة بالمدينة، ومن أجل ذلك احتجنا لموافقة من المُشغّل”.

هذا الأمر أُخفي، لكنّ موشيه تشيزيك، الحاكم العسكري الذي سبق لنيادو، إدّعى، في أحاديث مغلقة، أن “إسرائيل” تنتهك شروط الاستسلام مع العرب، الذين وعدوهم من ضمن الأمور بحريّة التنقل في المدينة.

في اللّد جُمع السكان العرب وخضعوا لحظر التجوّل، وفي إحدى المرات، كتب عرب الرملة: “تم وضع المسنين والنساء والشباب والأطفالوتمّ إيقافهم ثماني ساعات تحت أشعة الشمس الحارقة بدون ماء أو طعام أو أي سبب آخر سِوى تحقيرهم وتعذيبهم”.

ومثلما حدث في الحالات الأخرى، هنا طالبت وزارة الأقليات أيضًا من الحكم العسكري إزالة جدار الأسلاك الشائكة الذي أحاط المناطق السكنيّة للعرب في اللّد، وفقط في تموز، عندما أٌبطِل الحكم العسكري في المنقطة، سمح بحريّة التنقّل، لكنّ الجدران الشائكة ظلّت موجودة.

توثيق أرشيفي آخر يصف إغلاق مشابه لأحياء سكنيّة عاش فيها العرب في مدن أخرى، مثل المجدل وعكا، إذ أن الوزير شطريت “عارض إقامة غيتوهات للأقليّات”، وبرسالة لأعضاء الحكومة في منتصف عام 1948 ذكر أنه تعاملهم مع العرب “مُعيب وفظيع”.

كما طالب “بتحديد خطّ واضح لحقوق المواطن المتساوية” وإلّا الواقع سينتقم منّا، وكلامه ما زال ذو صلاحية وصلّة حتى اليوم”.

المصادر:

(1) “هآرتس”: https://bit.ly/3F6fwmw