مقدّمة العسّاس |
يبدو أن “الإنجازات والاختراقات” التي تحققها “إسرائيل” في منطقة الخليج من خلال التطبيع الصريح لبعض الدول، وقبوله ثم تنفيذه لاحقًا من البعض الأخر لم يكن وليد اللحظة، إنما هو نتيجة أهداف وسياسة إسرائيلية قديمة مدعومة من آلة نتنياهو الدعائية التي تأسست قبل 12 عامًا بشكل افتراضي، قُبيل الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي.
كيف تأسست هذه الآلة الدعائية؟ وما مدى تأثيرها؟
هذه المادة تكشف مدى تأثير دعاية الإسرائيلية الموجهة ضد المنطقة العربية في تحقيق أهداف “إسرائيل”، سواء على صعيد الأنظمة أو الشعوب.
إعداد العسّاس |
زرع المشاعر المعادية للفلسطينيين
في السنوات الأخيرة انضمّت إلى ركب الماكينة الإعلامية الإسرائيلية منظمات يهودية عالمية ممن تدعم سياسة نتنياهو الاحتلالية. فعلى سبيل المثال يحظى حساب “اللجنة اليهودية الأمريكية” الذي أنشئ قبل أقل من عام، بحوالي 60 ألف متابع (حتى وقت كتابة المقال).
تثبت شعبية هذه الحسابات، التي تكون رسائلها عادة أقل سياسيةً من الحسابات الإسرائيلية، ازدياد الاهتمام باليهودية. وتظهر مدى أهميّة هذه المنظمات كجسر قد يسهّل على الدول العربية المعنية بتطوير علاقاتها مع “إسرائيل”.
فمثلا كانت “اللجنة اليهودية الأمريكية” واسطة مهمّة لتقدم العلاقات بين الإمارات و”إسرائيل”، حيث استعانت اللجنة بحياديتها الظاهرة من أجل الربط بين مسؤولين من النظام الإماراتي وبين جهات صهيونية غربية تدعم الحكومة الإسرائيلية الحالية.
بالإضافة إلى الحسابات الرسمية، لقيت حسابات إسرائيلية شخصية تنشر بالعربية وتدعم سياسات الاحتلال الإسرائيلي دعمًا ومتابعة كبيرين في تويتر.
فمثلاً، يتابع حساب الأكاديمي المختص بالعالم العربي والمستشار السابق في مكتب رئيس الحكومة إيدي كوهين أكثر من 260 ألف متابع في تويتر. وقد تحوّل إلى مصدر مشهور للمعلومات حول السياسة “الإسرائيلية”، وتحولت شخصيته لمركز نقد ونقاش في أوساط مستخدمي وسائل التواصل العربية في الشرق الأوسط.
وكذلك غاي معيان، عضو الليكود وصحفي في هيئة الإذاعة العامة، إذ ينشر منشورات بالعربية بشكل دائم في حسابه على تويتر، وهو شديد التركيز والصخب فيما يتعلق بقضايا الفلسطينيين. ومن جهة، ينتقد الفلسطينيين الذين يرفضون العيش تحت السلطة الفلسطينية (المترجم: المقصود هنا عرب الداخل والنقاش الذي دار بينهم وحولهم في قضية الضم)، ويدافع عن السياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة (تقصد الكاتبة الضفة وغزة) من جهة أخرى.
هناك أيضًا مردخاي كيدر، أكاديمي ومحلل يميني، يخصص حسابه في تويتر فقط للقضية الفلسطينية، ويدّعي أن الدعم الشعبي لحقوق الفلسطينيين إنما هو ميل عاطفي يفتقد المنطق والحجة.
تتعاون هذه الحسابات الشخصية مع المنشورات التي تصدر من الحسابات “الإسرائيلية” الرسمية عن طريق إعادة تغريدها أو اقتباسها ونشر محتوى سياسي يتوافق معها، ويتوجه كثير من أصحاب الحسابات في خطابهم إلى الجمهور الخليجي، ويبرزون مواضيع تربط بين المصالح السياسية لدول الخليج و”إسرائيل”.
لوحظ كذلك ارتفاع في عدد المنشورات التي تطرح موضوع عداوة أو تحامل الفلسطينيين فيما يبدو على دول الخليج، وبالمزاعم أنّ الفلسطينيين تصرفوا بشكل غير مسؤول وناكر للجميل، وأنّهم تلاعبوا بالمنطقة بأكملها وخاصة بدول الخليج من خلال ادّعائهم بأنهم ضحايا للاحتلال.
كثيرًا ما تعيد الحسابات “الإسرائيلية” إعادة نشر هذه التغريدات، وقد لوحظ بالمقابل ارتفاع في عدد الحسابات الداعمة لإسرائيل في دول الخليج، وفي السعودية بشكل خاص، حيث تبارك هذه الحسابات إنجازات وسياسات دولة “إسرائيل” وتستنكر من جهة أخرى جهود الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال.
تشمل الادّعاءات التي يستخدمها داعمو الصهيونية في وسائل التواصل العربية من أجل تبرير تراجع الدعم للقضية الفلسطينية نجاحات إسرائيل في التطور التكنولوجي وفي حربها ضد الإرهاب، وتشمل كذلك ادّعاءات بأنّ طبيعة المقاومة الفلسطينية فاسدة وعديمة الجدوى، وكذلك رفض الفلسطينيين الموافقة على معاهدات سلام سابقة.
تتوافق هذه الادّعاءات في الحقيقة مع التفسيرات “الإسرائيلية”، مما يثبت فاعلية الحملات الإلكترونية التي أدارتها “إسرائيل” في المنطقة ونجاحها في ملاءَمة تكتيكاتها للجمهور العربي.
تستعمل هذه الحسابات أيضًا هاشتاج #فلسطين_ليست_قضيتي أو #نعم_للتطبيع، وفي الأشهر الأخيرة، قادت حملات مختلفة من أجل تنمية المشاعر المعادية للفلسطينيين في أوساط مواطني الخليج. كان ذلك عن طريق عرض الفلسطينيين بأنهم يعيشون حياة رفاهية أو عن طريق إبراز جوانب من حياتهم اليومية من أجل دحض ادّعاءاتهم بأنهم يتعرضون للاضطهاد والظلم.
معارضة التطبيع أمر خطير
فسّر نديم ناشف، مدير مركز حملة، المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، تضخّم الحضور الإسرائيلي في وسائل التواصل العربية بأنّها تريد أن تُظهر للجمهور العربي جودة الحياة المرتفعة في “إسرائيل”، والإمكانيات المتاحة أمام العالم العربي حال تطبيع العلاقات معها. يقول ناشف: تثبت هذه الظاهرة أن العلاقات مع العالم العربي تتحسن وتتقارب، وأن الاهتمام بالقضية الفلسطينية في هبوط مستمر.
وبالفعل، بدأ الخطاب المعادي للفلسطينيين بالحضور في الخطاب العام خارج وسائل التواصل، وصار كثير من الناس في الخليج يعبّرون عن دعمهم لـ “إسرائيل” وتحفّظهم على الصراع مع الفلسطينيين دون تحرّج. يُسمّى هؤلاء في الخطاب الشعبي “صهاينة العرب” (أو العرب المتصهينين) ويحظون مع الوقت بمزيد من الشرعية للتحدث بحرية عن مواقفهم الداعمة لـ “إسرائيل”.
صحيح أن هذه الأصوات ليست محصّنة من النقد الداخلي، ففي بعض الدول يلقى دعم التطبيع استنكارًا واسعًا (كما في الكويت مثلا). غير أنّ صوت الشارع يبدو موافقًا للتوجه الرسمي في الدول التي صارت فيها العلاقات الرسمية مكشوفة أكثر، كما في الإمارات.
يقول أحد الناشطين الاجتماعيين من دبي، (ممن راسلتهم الكاتبة بهدف التقرير الصحفي)، وقد فضّل أن يبقى مجهولًا بسبب آرائه النقدية تجاه التوجه الإماراتي الذي قد يضرّ به: الموضوع ليس فقط لأن الناس تمشي هنا بعقلية القطيع أو لأنّ الحكومة تدعم هذا التوجه، بل إنّ الأمر غدا مقبولًا جدًا داخل الإمارات بحيث لم يعد دعم “إسرائيل” أمرًا غريبًا، بل صار أمرًا تسمعه بين الفينة والأخرى.
يكتسب الخطاب الداعم لـ “إسرائيل” إذًا ميل المواطنين في الإمارات بسبب تبنّي توجّهات الحكومة الرسمية كما أشار الناشط، إضافة للقرار الذي صدر عن الحكومة بإخراج المسألة الفلسطينية من مناهج التعليم في المدارس. فوق كل هذا، تتيح وسائل التواصل الاجتماعي انتشار هذه الأفكار والمشاعر وتحويلها إلى حالة طبيعية.
أثّر الحظر الذي فرضته السعودية والإمارات ومصر على قطر عام 2017 بسبب دعمها للحركات الإسلامية على انحسار الخطاب الداعم للقضية الفلسطينية وعلى الوعي في الوضع القائم على أرض فلسطين. من أسباب ذلك أنّ قناة الجزيرة حُظرت في البلدان المقاطعة لقطر، وقد كانت قناة الجزيرة تُعنى بعرض واقع الاحتلال والقضية الفلسطينية، الأمر الذي لم يعد متاحًا للمشاهد العربي من هذه الدول.
يتعرض المثقفون والناشطون الذين يعارضون بعلنيّة أمر التطبيع إلى النقد من المواطنين الآخرين، ويلقَون معارضة عندما يدّعون أنّ حلّ القضية الفلسطينية يجب أن يكون أولوية قبل الحديث عن علاقات دبلوماسية مع “إسرائيل”.
أصبح إظهار معارضة التطبيع في دول كالإمارات أمرًا أكثر خطورة، حيث قد تعتقل الحكومة أو تعتدي على من ينتقدها في هذا الشأن. وكذلك أوضحت الحكومة الإماراتية بعد اتفاقية السلام يوم الخميس أنّ معارضة سياساتها الجديدة قد تتسبب في المشاكل للمعترضين. بشكل عام، قدرة مواطني الخليج على انتقاد الأجسام الحكومية والاعتراض على قراراتها محدودة، الأمر الذي مكّن الخطاب الداعم لـ “إسرائيل” من التطور في الإمارات دون قلق.
نتيجةً لكل هذا، يستنكر مستخدمو وسائل التواصل الفلسطينيون العلاقات بين دول الخليج و”إسرائيل” وينتقدون جيرانهم الذين تنكّروا للقضية الفلسطينية.
في الوقت الذي نجح فيه المعسكر الداعم للاحتلال بحشد دعم شعبي للتطبيع مع “إسرائيل”، تأخرت الأصوات “الإسرائيلية” المعارضة للوضع القائم، التي تناضل من أجل إنهاء الاحتلال في الوصول إلى عالم التدوين العربي، وحتى الآن لا يوجد لهم أي حضور في الخطاب الحالي في الخليج، لا على المستوى الرسمي ولا على المستوى الشعبي. منظمات السلام “الإسرائيلية” التي تعمل على الالتقاء مع الفلسطينيين لا تترجم موادها إلى العربية، وليس لها حضور في الإعلام أو وسائل التواصل العربية. وقد فهم هذا المعسكر، المعارض لسياسات الاحتلال، مؤخرًا أنّ عليه البدء في الحديث مع مواطني الخليج بشكل مباشر حتى يقنعهم أنّ العلاقات مع “إسرائيل” لا ينبغي أن تكون على حساب حقوق الفلسطينيين.
تسعى حكومة نتنياهو جاهدة أن تتعاون مع دول الخليج، وقد أثبتت أن تحقيق هذه العلاقات غير متعلق باتفاقية سلام مع الفلسطينيين. تؤثر القرارات الدبلوماسية لهذه الدول على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل كبير، وفي اللحظة التي غدا فيها التطبيع واقعًا، ستستمر هذه الدول في لعب دور مهم على أية تسوية مستقبلية. (1)
المصادر:
(1) “ميكوميت”: https://bit.ly/33kP32C
الجزء الأول: آلة نتنياهو الإعلامية: غزو الخليج