مقدمة العساس | ترزح مدينة الخليل خلال العقود الأخيرة تحت وطأة الاستيطان والتهويد، بدأت المساعِ بالسماح لليهود بالصلاة داخل الحرم الإبراهيمي بعد النكسة عام 1967، ثم بالمجزرة التي ارتكبها جولدشتاين عام 1994، وما نتج عنها من تقسيم زماني ومكاني للمسجد، وصولًا إلى تقسيمها لمنطقتين بموجب اتفاقية الخليل المُلحقة باتفاقية أوسلو عام 1998، واستمرار تقييد حريّات الفلسطينيين فيها حتى الوقت الحالي.

هذه المادة تُعرّف بالتقسيم الزماني والمكاني للحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، وتشرح أبعاده المختلفة التي انعكست على حياة السكان الفلسطينيين، ما يقدم نموذجًا يساعد بالنظر لأحداث المسجد الأقصى بشكل مختلف.

إعداد العساس

ما قبل التقسيم

في عام 1967 ومع نهاية النكسة “حرب الأيام الستة”، تغيّر واقع الحرم الإبراهيمي عندما سمح وزير الأمن الإسرائيلي حينها، موشيه ديّان لليهود بالصلاة داخله، حيث تم تخصيص عدد من الأماكن لهذا الغرض، تزامنًا مع محاولات الحفر أسفله، ما تسبب باحتدام الصراع العربي الإسرائيلي، إذ أصبح الحرم الإبراهيمي بمثابة الرمز الديني المختلف عليه. (1)

ومع حلول عام 1968، تم إنشاء مستوطنة “كريات أربع” في الخليل بدعم واسع من الشخصيات العامة والمفكّرين الذين بذلوا جهدًا كبيرًا من أجل إنشاءها، ثم تم الاعتراف بها كمجلس محلي عام 1981، وحتى عام 2014 وصل عدد سكانها نحو ثمانية آلاف نسمة يتّبع معظمهم التيار الديني.

وتعتبر “كريات أربع”، وهي المستوطنة الأولى التي نشأت بعد النكسة، بمثابة النموذج الاستيطاني الذي يُحتذى به، ولهذا تطلّع مؤسسوها إلى استيطان البلاد، فكانوا أول من أسّس المستوطنات في الضفة الغربية والجولان المحتل. (2)

أمّا بعد أوسلو، ظلّت المسألة الخلافية في الخليل مفتوحة، وبقيت المستوطنات بمساعدة أجهزة استيطانية وسياسية رغم القرار الإسرائيلي بالانسحاب على ضوء مفاوضات طابا، وهذا بعد ضغط عدد من المستوطنين والحاخامات على شمعون بيرس، الذي قرر تأجيل المسألة إلى ما بعد الانتخابات في ذلك الوقت. (3)

المجزرة

دخل باروخ جولدشتاين عام 1994 إلى الحرم الإبراهيمي ووقف على مدخل المسجد (القاعة الإسحاقية)، حيث كان هناك 800 شخص يقيمون الصلاة في رمضان، وأطلق النار على المصلين، ما أدى إلى استشهاد 29 وجرح أكثر من مئة، باستخدام خمسة مخازن رصاص، حتى ألقى أحد المصلين عليه أسطوانة إطفاء حريق وأسقطه أرضًا ليجتمع فوقه المصلون ويشبعوه ضربًا حتى الموت.

عاش جولدشتاين بإحساس أنه تمت خيانته من قبل بلاده، وتعزز لديه هذا الشعور بعد توقيع اتفاقية أوسلو، حينها ادعى أن العرب “هم النازيون الجدد”، بينما بعد مقتله رفضت عناصر الأمن طلب عائلته بدفنه داخل المقبرة اليهودية في الخليل، ودفن على مشارف حديقة مائير كهانا في “كريات أربع”، وسريعًا أصبح القبر مزارًا وتمت إقامة نصب تذكاري عليه، إلا أنه تمت إزالته بأمر من المحكمة العليا. (4)

يذكر أن جولدشتاين كان تلميذ الحاخام كاهانا، وناشطًا في حركة “كاخ”، إذ ترشح للانتخابات الـ 11 و12، لكن مشاركته ألغيت من قبل لجنة الانتخابات المركزية. عقب المجزرة، أُغلق الحرم الإبراهيمي في وجه اليهود لمدة سنة، واندلعت خلالها مواجهات في القرى الفلسطينية، وفرض الجيش الإسرائيلي حصارًا لمدة سنة ونصف في الأحياء الفلسطينية من أجل منع الثأر لشهداء مجزرة الخليل.

التقسيم

في 25 فبراير/شباط 1994 تشكّلت لجنة “شمغر” برئاسة قاضي المحكمة العليا، بأمر من يتسحاك رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، ووضعت توصيات وأقرت أن جولدشتاين نفذ جريمته لوحده دون أي ارتباط بجهة إسرائيلية، واتهمت الشرطة الإسرائيلية بأنها لا تقوم بواجبها في المستوطنات كما يجب، وأوصت بتقسيم الحرم الإبراهيمي وفصل اليهود عن المسلمين.

هذا التقسيم أعطى الفلسطينيين مصلّى الإسحاقية والجاولية، بينما مُنح اليهود باقي الأجزاء مثل الفناء الداخلي والقاعة اليوسفية والإبراهيمية واليعقوبية.

 ومن أجل الحفاظ على الوضع الراهن، لم تسمح السلطات الإسرائيلية بدخول الكتب واللوحات، ومنعت استخدام مكبرات الصوت وآلات النفخ، وحظرت عمليات الترميم دون إذن خاص، في حين أصبحت الشرطة الإسرائيلية هي المسؤولة عن الحفاظ على المبنى، وكانت هناك توصيات أخرى لإقامة وحدة استخباراتية تخصّ المستوطنات. (5)

بعد مرور ست سنوات ونصف، وتحديدًا في سبتمبر/أيلول عام 2000 اندلعت الانتفاضة الثانية، ما دفع جيش الاحتلال إلى توسيع سياسية الفصل في الخليل، وفرض عدد من القيود غير المسبوقة على حركة الفلسطينيين، تمثلت بحصار متواصل وإغلاق شوارع رئيسية في مركز المدينة القديمة.

هذه الإجراءات كانت الأسوأ على الإطلاق، وتسببت بتحويل وسط مدينة الخليل إلى منطقة أشباح، ودفعت الفلسطينيين إلى المغادرة جرّاء سياسة الفصل والقمع التي جاءت ضمن خطة رسمية إسرائيلية تم تخصيصها لحماية مستوطني الخليل عن طريق فصل مادي وقضائي بينهم وبين السكّان الفلسطينيين. (6)

بهذا الشأن، أكد تقرير البعثة الدولية إلى الخليل عام 2018، أن المدينة مُمزقة تحت الاحتلال العسكري والاستيطاني، وتعيش مقسمة أكثر من أي وقت مضى بسبب أعمال الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين.

كما أن الخليل تسير، بحسب التقرير، في الاتجاه العكسي لاتفاقيات عام 1998 التي وقعت بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية ضمن اتفاقية الخليل الملحقة باتفاقية أوسلو.

وقسّمت الاتفاقية المدينة إلى منطقتين: H1 وهي منطقة خاضعة للسلطة الفلسطينية وتشمل 80% من مساحة المدينة يعيش بها 175 ألف فلسطينيي، وH2 وهي تخضع إلى السيطرة الإسرائيلية ويعيش فيها 40 ألف فلسطيني ونحو 800 مستوطن، ويوجد بداخلها الحرم الإبراهيمي.

إضافة إلى ذلك، أشار التقرير إلى وجود تقييد وحرمان للفلسطينيين من الحريات في منطقة H2، وبذلك تكون “إسرائيل” مسؤولة عن خرق قانوني متكرر للحق في حرية العبادة، على عكس ما ورد في الوثيقة العالمية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية التي وقعت عليها “إسرائيل” عام 1991. 

وبيّن التقرير أيضًا أن “إسرائيل” تخرق البند 49 من وثيقة جنيف الرابعة، التي تمنع طرد الناس من منطقة محتلّة، كما أن الحياة اليومية العادية لا تتوفر لسكّان الخليل لا سيما في منطقة البلدة القديمة الواقعة في منطقة H2، وعلى سبيل المثال تحوّل سوق الخضار الفلسطيني القديم إلى منطقة عسكرية إسرائيلية يسيّطر عليه المستوطنون ويستخدمونها كمكان للعب أطفالهم.

أعيد تشكيل منظمة (TIPH: temporary International Presence in Hebron) بموجب اتفاقيات الخليل الملحقة باتفاقيات أوسلو “واي بلانتيشن” عام 1998، بين ياسر عرفات ونتنياهو، إذ عملت البعثة الأولى من المنظمة عام 1994 بعد مذبحة الحرم الإبراهيمي التي نفذها باروخ جولدشتاين، أما البعثة الحالية من المنظمة فيعمل فيها 64 عضوًا من خمسة دول وهي: إيطاليا والنرويج والسويد وسويسرا وتركيا.

خلال فترة عملها، انتقدت المنظمة عدد الحواجز المقامة بوجه الفلسطينيين ممن يريدون الصلاة في الحرم الإبراهيمي، إذ يوجد نقطتين فقط لوصول المسلمين إلى الحرم ويتم الوصول إليهما من خلال اجتياز حواجز عدة أخرى، ويتم الخضوع عبرها للتفتيش الدقيق. 

وأوضحت أن المؤذن يُمنع من النداء لأذان المغرب والعشاء وأيام السبت، من أجل المعتقد اليهودي حول هذا اليوم، مضيفة أنه في عام 2003 كان عدد المصلين المسلمين يوم الجمعة يبلغ 1600 مصلٍ، بينما في عام 2017 أصبح هذا العدد أقل من النصف.

الوضع الراهن وفق قرارات نتنياهو

خلال عام 2019، قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عدم تمديد ولاية مراقبي منظمة TIPH الدوليين في الخليل، وهم الذين يعملون في المدينة منذ 20 عامًا، وقال: “لن نسمح باستمرار وجود قوة دولية تعمل ضدّنا”. (7)

كما وصف نتنياهو قرار اليونيسكو في عام 2017، الذي صنّف الخليل والحرم الإبراهيمي ضمن قائمة التراث الفلسطيني، بـ “القرار السخيف”، وعلى إثره قرّر اقتطاع مليون دولار من الأموال التي تمنحها “إسرائيل” إلى الأمم المتحدة، موضحًا أن المبلغ سيحوّل إلى إقامة متحف لتراث الشعب اليهودي في مستوطنة “كريات أربع” في الخليل، ولصالح مشاريع إضافية في مجال التراث تخصّ مدينة الخليل. (8)

 

المصادر :

(1) معهد شختر : https://bit.ly/2L4l1IQ
(2)  هوم : https://bit.ly/2Ll7UBE
(3) سروجيم : https://bit.ly/2Rmx0pS
(4) واينت : https://bit.ly/2sbsLyd
(5) همخلول : https://bit.ly/30KuYjJ
(6) هآرتس : https://bit.ly/32dU5vU
(7) هآرتس : https://bit.ly/2YHluUM
(8) واللاه : https://bit.ly/2Hy2VNb