مقدمة العساس |
زخر الأرشيف الإسرائيلي بالكثير من الملفات والتسجيلات التي وثقت أحداث النكبة عام 1948، ومأساة تهجير السكان الفلسطينيين من أراضيهم، إلا أن الباحث في طيات هذا الأرشيف قد يخرج باستنتاجات مغايرة للواقع عملت الحكومات الإسرائيلية على اختلاقها وتكريسها لتحقيق ذلك بجهد العديد من الباحثين.
كما أن الوثائق المتاحة للاطلاع من محفوظات الأرشيف لا تروي كل الحقيقة، فالكثير غيرها ما يزال مخفيًا رغم انتهاء فترة صلاحية قانون حظر النشر.
هذه المادة المترجمة عن صحيفة “هآرتس”، تتحدث عن الرواية الإسرائيلية التي تم اختلاقها عن أحداث النكبة، وكيفية توثيق تلك الافتراءات عن طريق الأرشيف الإسرائيلي بقرار رئاسي من بن غوريون.
ترجمة العساس |
البحث الذي كان عليه إثبات أن العرب قد غادروا بإرادتهم في 1948
شاي خزكاني*
قبل الكشف عن طرد اللاجئين الفلسطينيين على يد “المؤرخين الجدد”، كان واضحًا لرئيس الحكومة الإسرائيلي حينها دافيد بن غوريون أنه في مأزق، كما أن الضغط الأمريكي لإعادة اللاجئين حينها، دفعه إلى التكليف بعمل بحث، يفترض أنه أكاديمي، لإخبار العالم بأن العرب هجروا بيوتهم بإرادتهم.
غابت عيون الرقابة عن ملف “جال 18/17028” المحفوظ في أرشيف “إسرائيل”. الملفات المتعلقة بخروج فلسطينيّ الـ 48، بقيوا، في الغالب مُغلقين في الأرشيف الإسرائيلي، رغم انقضاء مدة سريان السرية عليه حسب القانون الإسرائيلي منذ مدة.
حتى أن تلك الملفات التي فُتحت واستخدمها الملقّبون بـ “المؤرخين الجدد” لم تعد متاحة، وخلال العشرين سنة الأخيرة بعد الموجة الكبيرة التي سببتها كتبهم، قام الإسرائيليون بإغلاق عدد كبير من الملفات المُتداولة في الأرشيفات.
وصُنّفت المستندات الإسرائيلية التي وثّقت تهجير الفلسطينيين وقت الحرب والمذابح أو الاغتصابات التي ارتكبها جنود إسرائيليون، وتضمنت أحداثًا عدّة أخرى كـ “سريّة للغاية”. كما أن الباحثين الذين حاولوا تتبع المراجع في كتب “بني موريس” و”افي شلايم” و”توم سيجيف” وصلوا أكثر من مرة إلى طريقٍ مسدود.
بسبب ذلك، تعتبر إمكانية فتح ملف “جال 18/17028” – الهروب في 1948″، حسب العنوان الذي أُعطي له، مفاجئة جدًا، إذ يحتوي على مستندات كُتبت خلال سنوات 1960 إلى 1964 تصف محاولة تأسيس صيغة الادّعاء الإسرائيلي للنكبة الفلسطينية في 1948، ومنحها قناعًا أكاديميًا تحت رعاية رئيس الحكومة حينها ديفيد بن غوريون، الذي طلب بدوره أفضل الشرقيين العاملين بالخدمة المدنية لتقديم دلائل على أن الفلسطينيين هربوا ولم يتم تهجيرهم.
بهذا الشأن، غالبًا لم يسمع بن غوريون كلمة نكبة، إلاّ أن رئيس الوزراء الأول أدرك أهمية هذه السرديّة في أواخر الخمسينيات، وتيقّن أنه كما كانت الصهيونية قادرة على إنتاج سرديّة جديدة للشعب اليهودي في غضون بضعة عقود، فأنه لن يكون بعيدًا على الشعب الذي عاش في أرض فلسطين ما قبل الصهيونية، أن ينتج سرديّة خاصة به ذات يوم.
هذا الشعب طبعًا كان الشعب الفلسطيني، وتقف في قمة روايته النكبةُ الفاجعة التي حلّت بالفلسطينيين مع قيام دولة “إسرائيل” عام 1948، حيث تحوّل 700 ألف من أبنائه إلى لاجئين.
في أواخر الخمسينيات، قدّر بن غوريون أن سؤال “ماذا حدث في 1948؟” سوف يقف بمقدمة المواجهة الإسرائيلية الديبلوماسية بالعالم، لا سيما بمواجهتها ضد الحركة الوطنية الفلسطينية: فإذا تم تهجير الفلسطينيين في 1948، فإن مطالب إرجاعهم لأرضهم ستكون شرعية بنظر العالم، بينما إن كان خروجهم “بإرادتهم”، أي أنه تم إقناعهم من قبل قادتهم بأن يرحلوا لحين يعودوا بعد الانتصار، فسوف يعتبر العالم شرعيّة ادعائهم منقوصة.
في هذا الوقت، يوافق أغلب المؤرخين، سواء كانوا صهيونيين، ما بعد صهيونيين أو لا صهيونيّين، أن القوات المسلحة اليهودية هجّرت على الأقل 120 قرية من أصل 350 خلال النكبة، أمّا نصف القرى فقد هرب منها السكان خوفًا من المواجهات ولم يُسمح لهم بالرجوع، مع ذلك، قلة قليلة فقط من السكان خرجت من القرى بسبب طلب القادة أو المختار.
ويبدو أن بن غوريون كان يعلم بالصورة نوعًا ما. رغم أن مواد كثيرة بالأرشيفات الإسرائيلية بموضوع اللاجئين الفلسطينيين ما زالت سرية، تكفي المواد التي كُشفت في السابق ليثبت أنه في جزء من الحالات أمر قادة “جيش الدفاع الاسرائيلي ” (التنصيص من المترجم) العسكريين بتهجير الفلسطينيين وتفجير قراهم، وقد أخبروا بن غوريون بالأمر وأخذوا الموافقة المُسبقة، كما في اللد والرملة على سبيل المثال لا الحصر وبعض القرى في الجبهة الشمالية.
رغم ذلك، تبقى الملفات المفتوحة للقراءة بالجهة الإسرائيلية غير كافية لإعطاء جواب قاطع للسؤال إذا كان هناك خطة منظمة لتهجير الفلسطينيين، كما أن الجدال على السؤال قائم حتى اليوم.
بهذا الشأن، قدّر المؤرخ بيني موريس، خلال مقابلة مع صحيفة هآرتس، أن بن غوريون أمر بخطة الترانسفير ضد السكان الفلسطينيين، رغم أنه ليس هناك دلائل بالملفات التي ممكن تثبت ذلك قطعًا. كما أنه قبل انتهاء حرب 48 أوعزت الدعاية الإعلامية الإسرائيلية بإخفاء الحالات التي تم فيها تهجير الفلسطينيين من قراهم.
في كتابه الذي حمل اسم “ذكرى بالكتاب”، ذكر المؤرّخ موردخاي بار-اون اقتباسات لـ “اهران تسيزيلينج”، الذي أصبح عضو كنيست عن حزب “احدوت هعفودا” ووزير الزراعة بحكومة بن غوريون الذي كتب في أوج تهجير عرب اللد والرملة: “لم نقم بهجير العرب خارج حدود “إسرائيل” بعد أن بقوا تحت حكمنا، لم يتم تهجير أي عربي على يدنا”. [….].
ومع بداية حكم جون كندي كرئيس الولايات المتحدة في عام 1961، تعالت أصوات بالحكومة الأمريكية تطالب “إسرائيل” بالموافقة على رجوع قسم من اللاجئين الفلسطينيين. حتى أنه عام 1949 كانت “إسرائيل” قد وافقت على النظر في إمكانية إرجاع 100 ألف لاجئ مقابل تسوية سلام شاملة مع الدول العربية، إلا أنها بداية الستينيات رفضت حتى ذلك وتمسّكت في عدد صغير من اللاجئين، 20-30 ألفا كأقصى حد.
على إثر ضغط كينيدي والتئام مجلس الأمم المتحدة الذي كان من المفترض أن يبحث موضوع اللاجئين، اجتمع بن غوريون بأعضاء رفيعي المستوى من حزب “ماباي” (حزب عمال أرض “إسرائيل”) في مقر مكتبه، من بينهم وزيرة الخارجية حينها غولدا مائير، وزير الزراعة موشيه ديّان، ورئيس الوكالة اليهودية موشيه شاريت.
في ذلك الوقت، كان بن غوريون متأكدًا أن مسألة اللاجئين هي قضيّة دعاية وإعلام، وأن “إسرائيل” بمقدورها إقناع العالم أن اللاجئين هربوا ولم يتم تهجيرهم، وقال حينها: “يجب أولا إخبار الحقائق، كيف هربوا، بحسب ما هو معروف لي الأغلبية هربوا قبل قيام الدولة بإرادتهم، على خلاف “الهاجانا” التي أخبرتهم – حال الانتصار عليهم، أنه يمكنهم البقاء. بعد قيام الدولة عرب الرملة واللد فقط من تركوا أماكنهم، أو تم ممارسة الضغوط عليهم حتى يغادروا”. وبهذا حدد بن غوريون إطار النقاش، رغم إدراك جزء من الحاضرين، على الأقل، أنه لم يكن دقيقًا، على أقل توصيف.
أمّا ديّان الذي بنطاق وظيفته كقائد لواء منطقة الجنوب بعد عام 1949 قد أمر بطرد البدو، لم يكن بمقدوره أن يناقض أقوال بن غوريون إن العرب “غادروا بإرادتهم الحرّة”.
أكمل بن غوريون أقواله وشرح كيف يجب على “إسرائيل” إخبار العالم أن “كل الحقائق غير معروفة، وهناك مادة حضرتها وزارة الخارجية من شهادات مؤسسات عربية تتبع للمفتي جمال الحسيني (القصد على ما يبدو للحاج أمين الحسيني وليس جمال الذي كان ممثل غير رسمي للفلسطينيين بالأمم المتحدة) بموضوع الهروب، وأن هذا الأمر تم بإرادتهم الحرة. حيث قيل لهم إن هذه الأراضي سوف يتم احتلالها من جديد وإنكم ستعودون لتكونوا أصحاب البيوت وليس فقط تعودوا إلى بيوتكم”.
على إثر ما فسّره بن غوريون بجلسة الوزراء بالحاجة إلى “عملية جديّة”، أمر معهد “شيلواح” في عام 1961 جمع مادة للاستخدام الحكومي حول “هروب العرب من أرض “إسرائيل” في عام 1948″.
*الكاتب: شاي خزكاني، طالب دكتوراه في مركز طاوب لدراسات “إسرائيل” في جامعة نيويورك.
المصادر:
(1) “هآرتس”: https://bit.ly/2zKqZLm