مقدمة العساس | يسعى الاحتلال الإسرائيلي إلى تجميل صورته عالميًا مستخدمًا القوانين المختلفة وقواعد حقوق الإنسان، ويبدو أنه حقق تقدمًا ملموسًا بهذا الشأن، في ظل استمرار أنظمة عربية عدة في البطش بمواطنيها، وهذا قد يدفع البعض إلى البحث عن تباينات مغلوطة بين السجون الإسرائيلية والعربية، ما يعمل على تعزيز غاية الاحتلال التجميلية. كما أن جرائم التعذيب التي ترتكب بحق الأسرى الفلسطينيين يمكن مشاهدتها في حالات التعذيب التي تظهر إلى العلن، آخرها قضية تعذيب الأسير سامر العربيد، لتؤكد من جديد حقيقة الاحتلال وزيف صورته المُحسّنة بمساعدة غطاء قانوني وقضائي يتحايل على القانون والاتفاقيات الدولية من جهة، ويحمي ويشجع الجناة ومرتكبي هذه الجرائم من جهة أخرى.

هذه المادة تتحدث عن التعذيب وأساليبه في السجون الإسرائيلية، الذي يتم بالتواطؤ والتعاون مع مختلف الأجهزة القضائية والأمنية.

إعداد العساس | حتى عام 1987، بقيت إدارة العمليات الأمنيّة التابعة لجهاز الشاباك محجوبة تمامًا عن الرأي العام، لدرجة أن نشاطاتها كافة كانت تنفذ دون أي نوع من الرقابة، إلا أن تقرير لجنة التحقيق الحكومية الأولى “لاندو” التي تشكلت عقب قضية “عزات نفسو”، وهو ضابط شركسي في جيش الاحتلال تعرّض للتعذيب بعد اتهامه بالتجسس، تضمّن معلومات تؤكد أن “الشاباك” خدع جهاز القضاء على مدار 16 عامًا بما يتعلق باستخدامه العنف لجمع الاعترافات من المعتقلين.

رغم إدانة اللجنة لمثل هذه الممارسات، إلا أنها منحت محققي جهاز “الشّاباك” صلاحية استخدام “الضغط النفسي” و”درجة معتدلة من الضغط الجسدي” ضدّ المستجوَبين، من أجل “منع الأعمال الإرهابية”، إذ استندت على مرجعية صلاحيات “دفاع الضّرورة” المنصوص عليها في قانون العقوبات الإسرائيلي.

وكشف تقرير لجنة لانداو عن مصطلح “بيروقراطية التعذيب”، الذي يتضمن أن المحقق لا  يتحمل المسؤولية الأخلاقية الشخصية، لكن “الجهاز” مجهول الهوية والشخصية هو المسؤول عن التعذيب، ثم انطلقت الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى التي خالف خلالها محققو “الشاباك” توصيات اللجنة بشكل ممنهج. (1)

على ضوء ذلك ، في عام 1991، قدم مركز “بتسيلم” تقريرًا موسعًا تلاه عدد من الالتماسات إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، يتعلق بالتحقيق مع الفلسطينيين في فترة الانتفاضة الأولى ويستند على 41 مقابلة مع أسرى ومعتقلين في السجون العسكريّة حقق معهم من قبل الشاباك.

وتركزت أساليب التحقيق المستخدمة على نمط واضح بشكل ثابت وروتيني، وتمت معاملة كل معتقل بالطرق التالية: الشتائم والإهانات اللفظية وتهديدات بإيذائه أو إيذاء ذويه وحرمان من النوم والطعام (أحيانًا ما يصل إلى 10 أيام دون أي نوم)، وغطاء رأس المعتقلين في كيس قماشي (مبتل أحيانًا) لساعات أو حتى أيام واحتجاز المعتقلين لفترات طويلة في زنازين معزولة صغيرة (اسموها بـ “الخزانة” أو “الثلاجة”) يكون فيها جسمه في وضعية تتسبب بألم شديد.

وتضمنت وسائل التعذيب أيضًا: التقييد لفترات طويلة (إحدى الحالات وصلت إلى 36 ساعة) في وضعيات مؤلمة، مثل “ربطة الموز” التي ينحني فيها الجسم وترتبط اليدين بالساقين، أو وضعية “الشبح” التي استخدمت بحق كل المعتقلين، وتكبل فيها أياديهم فوق رؤوسهم، وأحيانًا تكبل إلى قضيب أو أنبوب ثابت في الحائط لساعات وأيام، واستخدام المتعاونين لاستخراج المعلومات بالقوة والعنف، أو التهديد باستخدامه.

إضافة إلى ذلك، أجبر المعتقلون على ممارسة نشاطات جسمانيّة بشكل قسري، مثل الاستحمام بالماء البارد والجلوس على أرضية مبللة لفترة طويلة وتوجيه ضربات شديدة في جميع أنحاء الجسم باللكمات والعصي وغيرها من الأدوات (نتيجة للضرب فقد 15 من الذين أجريت معهم المقابلات الوعي، و11 عانوا من إصابات خطيرة لدرجة أنهم اضطروا إلى تلقي العلاج الطبي في المستشفيات خارج السجون).

يذكر أنه لم توجد علاقة بين نوع التحقيق وشدته ومدى خطورة الاتهام، ولم توجد علاقة أيضًا بين طبيعة التحقيق والإدانة اللاحقة ضد المشتبه به، كما لم تتم إدانة أي من الأشخاص الـ 41 الذين تمت مقابلتهم أو حتى الاشتباه بهم بتورطهم بـ “نشاط إرهابي عدائي”، الأمر الذي بررته لجنة “لانداو” سابقًا وأوصت باستخدام “مستوى معتدل من الضغط الجسدي” في التحقيق بمثل هذه التهم.

كشف التقرير أيضًا أن المحاكم العسكريّة في الأراضي المحتلة، خاصة في السنوات الثلاث الأولى للانتفاضة، خضعت للقانون الدوليّ والإسرائيلي وعملت وفق ما جاء فيهما، رغم ذلك تنعكس الخروقات في ثلاث قضايا رئيسية: أولاً، تمديد فترة الحبس الانفرادي ومنع المعتقلين من لقاء محامي الدفاع لمدة تصل إلى 30 يومًا. ثانياً، الصلاحيات الواسعة لجهاز الشاباك والمكانة العظيمة التي يتمتع بها دون الخضوع لأي نوع من الإشراف أو الرقابة من قبل أي هيئة خارجية رسمية، وثالثًا صعوبة الطعن في مدى صحة قبول اعترافات المعتقلين التي انتُزعت تحت التعذيب.

وأشار التقرير إلى النتائج الخطيرة الناجمة عن السماح بالعنف في التحقيق، إذ لم يتم السماح عن طريق التشريعات القضائيّة فقط، إنما من خلال أوامر إدارية تحتوي توجيهات “سرية” تُطبق في الاستجواب والتحقيق مع الفلسطينيين فقط.

ويتم ذلك من خلال تخفيف وتفريغ معنى التعذيب أخلاقيًا، إذ ساهمت توصيات لجنة “لاندو” في ذلك من خلال السماح باستخدام أساليب لا يمكن لدولة تعتبر نفسها ديمقراطية استخدامها، كما أن “المبادئ التوجيهية” بشأن أساليب “الضغط البدني المعتدل” قد أدرجت في الجزء السري لتقرير اللجنة، الذي لم يتم نشره ولم يتمكن الجمهور من معرفة ما منع وما سمح به.

وكشف التقرير إمكانية تورط عدد من الأشخاص والأجهزة الرسميّة لجانب جهاز الشاباك كالشرطة والجيش ومصلحة السجون الإسرائيلية والقضاة وحتى الأطباء بممارسات التعذيب والتواطؤ في التستر عليه. (1)

تقنين التعذيب دون محاسبة

في أيلول 1999، وعقب سلسلة التماسات قدّمها فلسطينيّون جرى التّحقيق معهم من قِبل الشّاباك، أصدرت المحكمة العليا قرارًا ينص على أنّ القانون الإسرائيلي لا يمنح لمحقّقي الشّاباك أيّة صلاحية لاستخدام وسائل تحقيق جسديّة، وحكم القُضاة أنّ الأساليب التي جرت مناقشتها في إطار الالتماس، منها التقييد المؤلم والهز وتغطية الرأس بكيس لفترة طويلة والحرمان من النوم، كلّها غير قانونيّة، ومع ذلك أقرّ القُضاة أنّ المحققين الذين تجاوزوا صلاحياتهم مستخدمين “الضغط الجسديّ” على المُعتقلين لن يتحمّلوا المسؤوليّة الجنائيّة جرّاء ذلك. (3)

مبرر القنبلة الموقوتة

رغم حظر التعذيب وفق القانون الدولي، أقرّ القاضي أهارون باراك عام 1999 استثناء يسمح للمحققين باستخدام التعذيب، وأطلق على هذا الاستثناء اسم “القنبلة الموقوتة”، أي بحال علم المحقق بوضوح أن هناك عملية فدائية على وشك الحدوث ويتوجب منعها واحباطها، بإمكانه نزع المعلومات ذات الصلة باستخدام وسائل عنيفة لإنقاذ الكثير من الأرواح.

وبهذا فإن محققي الشاباك الذين نكلوا بمن تم التحقيق معهم تحت مسمى “القنبلة الموقوتة” معفيون بالإعفاء من المثول أمام القضاء، فقد منح هذا الاستثناء الشرعية الضمنية لمثل هذه الأعمال الخطيرة، على النقيض التام من روح القانون الدولي الذي لا يعترف بوجود استثناءات بسياق حظر التعذيب والتنكيل. (4)

في الفترة التي تلت القرار، طرأ انخفاض في عدد التّقارير عن حالات التعذيب والتنكيل خلال تحقيقات الشّاباك؛ إلا أن محقّقي الجهاز واصلوا استخدام أساليب تحقيق يمكن وصفها بالتنكيل والتعذيب تحت رعاية اعتراف القُضاة بالاستثناء المسمّى “قنبلة موقوتة”، كما لم يستخدم هذا الإجراء في حالات فريدة واستثنائيّة فقط، بل سرعان ما أصبح جزءًا من سياسة التّحقيق المتّبعة. (4)

وعقب قرار المحكمة الذي أقر استثناء “القنبلة الموقوتة”، سُن قانون “جهاز الأمن العام” عام 2002 الذي يحدد الإطار القانوني لممارسات الشاباك، ويذكر أن اقتراح القانون شمل بندًا يسمح للشاباك باستخدام العنف الجسدي بالتحقيقات، وتم تمرير القانون من دون البند المذكور، بالمقابل أُدراج هذا البند في قانون مكافحة الإرهاب. (9)

ذئب يحمي القطيع

بعد ذلك، أمرت المحكمة بإنشاء ما أسمته “متبان”، وهو اختصار لـ “مراقب شكاوى تحقيقات الشاباك”، وهي لجنة شُكّلت لبحث الشكاوى المرفوعة ضد محققي الشاباك، وهي بمثابة “السد الحصين” الذي لم يسمح لشكوى واحدة بالتقدم إلى مرحلة الاستجواب. فمنذ عام 2001 وحتى الوقت الحالي رفعت 1200 شكوى لم تنجح واحدة منها بالوصول إلى المحاكم، ولم تقدم لائحة اتهام واحدة، بادعاء أنه لم يكن هناك حرمان من النوم، وكل المعتقلين الفلسطينيين غير صادقين، وكل المحققين تكلموا عن الحقيقة البحتة، وكل التحقيقات أجريت بروح طيبة أثناء تبادل النكات والأمثال، وغالبية الاعترافات كانت بكامل إرادة المعتقلين. (5)

وبهذا اغلقت جميع الشكاوى المرفوعة ضد محققي جهاز الأمن العام بدعوى التعذيب، ورفضت العديد من الالتماسات المقدمة إلى المحكمة العليا ضد إغلاق القضية بشكل مباشر، كما لا توجد بيانات حول كم الاعترافات التي انتزعت بطرق غير قانونية ، أي كانت اعترافات كاذبة. (5)

“الطرق الخاصة” مساحة إضافية للشاباك

وفي سابقة قضائيّة، تم توسيع استخدام هذا الاستثناء ومفهومه بشكل غير محدود في قضية فراس طبيش عام 2017، إذ يلغي قرار المحكمة شرط وجود خطر ملموس ووشيك من حدوث انفجار، ويعمل القرار الجديد على تضليل حدود المسموح والمحظور الذي كان دائمًا يمثل مشكلة، ويخلط بين جمع المعلومات عن المنظمات الإرهابية والأسلحة التي بحوزتهم وبين منع القتل في سياق هجوم إرهابي محدد. (5)

(فراس طبيش: اعتقل في العام 2011 بتهمة الانتماء إلى حركة حماس، واشتبه الشاباك به بأنه يعلم بمكان تخزين أسلحة سيستخدمها نشطاء حماس)

كما يسمح هذا القرار الجديد بتفسير موسع للسؤال عمن هم المشتبه بهم الذين يُسمح لجهاز الأمن العام باستخدام “طرق خاصة”، وهي طرق تعذيب مثل منع النوم واحتجاز المشتبه به لفترة طويلة وهو بوضعية “ركعة الضفدع”، والتي لا تُعرَّف بأنها تعذيب ولكن يمكن أن تكون مؤلمة. (4)

وعن السؤال ما هي “الطرق الخاصة”؟ قال القضاة إنها طرق التحقيق المحظورة في الظروف العادية، التي لا تصل إلى حد التعذيب، إذ تجنبوا في قرارهم الإسهاب بالتفاصيل، ولكي يتم ممارسة هذه الأساليب يتوجب على القيادة العليا للشاباك الموافقة واعطاء التعليمات بذلك. (6)

يذكر أن سلطة إعطاء التعليمات لم تُمنح إلا لكبار مسؤولي جهاز الأمن العام، بالوقت التي يٌلزم فيه المحقق بتدوين كل الطرق والإجراءات التي يستعملها، كعدد الضربات، والصفع، والشد والإجراءات المتنوعة، كما يجب على المحقق بعد كل تحقيق من هذا النوع، إبلاغ المستشار القضائي للحكومة أيضًا.

وفيما يتعلق بالموافقات اللازمة لممارسة تحقيق من هذا النوع، على المحقق بداية أن يتوجه إلى المسؤول المباشر عنه إلى أن يصل الطلب إلى مدير الشاباك، ومع ذلك في الحالات العاجلة مثل الحالات الأمنية، يمكن للمحقق نفسه تطبيق الوسائل على الأرض حتى بدون تصاريح وموافقات نظرًا إلى “الخطر الذي يشكله على حياة الإنسان”، وبعدها يمكنه تقديم طلب بأثر رجعي. (8)

المصادر:

 

1- بتسيليم: https://bit.ly/2nmnyFe

2- بتسيليم: https://bit.ly/2nzS5zl

3- بتسيليم: https://bit.ly/2nvNIoT

4- المعهد الإسرائيلي للديمقراطية: https://bit.ly/2oVFeHV

5- هآرتس: https://bit.ly/2nmsfyP

6- هآرتس: https://bit.ly/2nwlQRA

7- اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في “إسرائيل”: https://bit.ly/2oa5jCN

8- هآرتس: https://bit.ly/2okh3T9

9- واينت: https://bit.ly/2nxWsuB