مقدمة العساس | منذ توقيع اتفاقية وادي عربة بين الأردن و “إسرائيل” عام 1994 لم يطرأ تغيّر يذكر على العلاقات الأردنية الإسرائيلية خارج الإطار الرسمي والحكومي. بقي الشارع الأردني في مجمله رافضًا لمعظم أشكال التطبيع التي فُرضت أو عُرضت عليه على مدى السنوات الماضية. لكن ومع ذلك، بدأت في مطلع هذا العام أعمال البناء والتأسيس لمشروع “بوابة الأردن” كمنطقةٍ صناعية تجارية حرة على الحدود بين البلدين. الهدف المعلن لهذه المنطقة هو تعزيز التعاون الاقتصادي وتحقيق عوائد تنموية لكلٍ من الأردن و “إسرائيل”، إلا أن نظرةً فاحصة لماهية المشروع وعناصر تكوينه تشي بعكس ذلك. فهل تكون بوابة الأردن هي بوابة “إسرائيل” نحو هيمنة اقتصادية إقليمية ؟
ترجمة العساس | عبرنا “كيوبتس طيرات تسِڤي” (اسم مستعمرة إسرائيلية)، وتابعنا طريقنا شرقًا- طريق مليئة بالنخيل والمحاصيل الحقلية- على امتداد السياج الفاصل حتى وصلنا إلى نهر الأردن، حيث باشروا أعمال البناء في مشروع بنية تحتية مشترك بين “إسرائيل” والأردن. إنه مشروع “بوابة الأردن”؛ وهو جسرٌ يمتد فوق نهر الأردن المقدس ليربط الدولتين بعضهما ببعض ويخلق واحة للتجارة الحرة على ضفتي النهر. تتكون هذه المنطقة الحرة من 700 دونم من الأراضي الأردنية تقام فيها المصانع والمعامل ومرافق التشغيل والتخزين، إضافة إلى 245 دونمًا من الأراضي على الجانب الإسرائيلي (استملكتها الدولة من الكيبوتس المقامة في منطقة بيسان) ستُخصص لإنشاء مراكز التحكم والإدارة والدعم التقني، بما في ذلك محطات النقل والترحيل والتخليص الجمركي وسواها من الخدمات اللازمة لعمل المنطقة الحرة ومرافقها على الجانب الأردني. وبين الجانبين الأردني والإسرائيلي سيربط جسر نَهري مباشر يبلغ طوله 325 مترًا. حاليًا لا يوجد الكثير لرؤيته في الموقع؛ بضع جرافات وآلياتٍ ثقيلة لاقتلاع الحجارة في الجانب الإسرائيلي، و شاحنات تنقل الرمال إلى الجانب الأردني ليعاد استخدامها بعد سنة ونصف في تمهيد الطرق البينية وإنشاء الجسر الجديد. كانت المنطقة حتى وقت قريبٍ حقلًا كبيرًا للألغام، لكن وخلال وقتٍ وجيز تم نزع كل الألغام من جانبي الحدود.
لماذا نسميها واحة؟ ببساطة لأن المنطقة ستكون شبه حوضٍ مغلق للإسرائيليين والأردنيين و لن يحتاجوا إلى جوازات سفرٍ للدخول إليه، ومع ذلك، فهو لن يشكل نقطة عبور بين الدولتين. لكن في المقابل لا يمكننا الزعم بأن إنشاء وتشغيل هذه المنطقة هي بالفعل رؤيةٌ مشتركة بين الأردن و “إسرائيل”، فكلمة “مشتركة” لا تعبر بدقة عن واقع المشروع، “إسرائيل” هي من تدفع مقابل كل شيء. الميزانية المخصصة لبناء الجسر والتي تبلغ حوالي 60 مليون شاقل قامت بتمويلها وزارة المواصلات الإسرائيلية ضمن بند “التعاون الإقليمي”، أما الميزانية المتوقعة لتشغيل الجانب الإسرائيلي من الواحة التجارية فتبلغ 200 مليون شاقل، تتكفل بها الحكومة الإسرائيلية كذلك.
خرجت فكرة منطقة التجارة الحرة للعلن لأول مرة ضمن اتفاقية السلام الموقعة بين الأردن و “إسرائيل” – الشهيرة باتفاقية وادي عربة والتي جرى توقيعها في العام 1995 – وفي العام 1998 وقّعت الدولتان على مذكرة تفاهم تؤسس لإنشاء منطقة صناعية مشتركة. وبعد 13 عام من توقيع المذكرة، تحديدًا في العام 2012، صادقت لجنة وزارية إسرائيلية برئاسة وزير التعاون الإقليمي على إتمام مشروع بوابة الأردن. بعد مرور عامٍ واحد على القرار الوزاري، أعطت الحكومة الإسرائيلية الموسعة في ديسمبر 2013 الضوء الأخضر لمشروع إقامة المنطقة الصناعية، وبعد مرور أربعة أعوام على ذلك- بدأت أعمال الحفر والإنشاءات في الموقع.
الفوائد المتوقع أن تجلبها منطقة التجارة الحرة للجانبين (خاصة للجانب الإسرائيلي) لا يمكن إغفالها: تدفق حر للعمّال ورجال الأعمال، البضائع والمواد خام، العديد من التخفيضات والامتيازات كالإعفاءات الضريبية والجمركية للشركات، وإمكانية مشاركة بعض الموارد والمرافق ذات المزايا التنافسية كخطوط سلاسل الإمداد والمنافذ البرية والبحرية وغيرها. موقع المشروع -اختير على نحو نمطي للغاية- يتوسط المسافة من ميناء حيفا إلى عمّان، ولا يبعد كثيرًا عن إربد (ثاني أكبر مدن الأردن). المشروع يمنح الأردن مدخلًا بحريًا عبر السواحل الإسرائيلية نحو أوروبا والولايات المتحدة وفي المقابل تحصل “إسرائيل على متنفس بري مباشر يربطها – من منظور جيو اقتصادي- بخليج العقبة والشرق الأقصى عبر البر الأردني.
لكن الفائدتين الأكبر من المشروع تبقيان خارج حيز النقاش العام في أغلب التصريحات الرسمية وشبه-الرسمية في الدولتين الجارتين. ففي المقام الأول ستحصل منتجات المصانع والشركات العاملة في المنطقة الحرة على شهادة منشأ أردنية-إسرائيلية محايدة (Made in Jordan Gateway) ما يمكن الأردنيين من إخفاء -ولو القليل- من تعاونهم الاقتصادي مع الكيان الصهيوني، وفي المقابل ستتمكن الشركات الإسرائيلية من التصدير إلى أسواق دولٍ لم تكن في الماضي معنية بمنتجاتها. أما الفائدة الكبرى الثانية من المشروع فهي ما ستحصل عليه “إسرائيل” من “أيدٍ عاملة جذابة” أو بكلمات أخرى: “يدٌ عاملة أردنية أرخص من الرُخص”. لا يتمتع العامل الأردني بقوانين تضاهي نظيراتها الإسرائيلية، فهو يفتقر للعديد من أدوات الحماية القانونية كالحد الأدنى للأجور وعلاوات غلاء المعيشة ونحوها، وهو في المقابل يجني ما متوسطه 3 دنانير أردنية في اليوم (حوالي 16 شاقل). و بالاعتماد على ذلك، حتى وإن ضاعفت المصانع الإسرائيلية المعاش الممنوح اليوم للعامل الأردني – في أحد مصانع مدينة سحاب الصناعية في عمّان على سبيل المثال، و حسّنت من ظروف العمل، ستبقى تكاليف التشغيل والإنتاج والتوظيف مغريةً للغاية لأصحاب رؤوس الأموال – أردنيين و إسرائيليين أو حتى أجانب – ممن سيؤسسون أعمالهم في المنطقة الحرة. أما الأردن المُثقل أساسًا من أعباء نسبة البطالة المرتفعة، حيث اليد العاملة متوفرة وبكثرة والوظائف شحيحة للغاية، يجد في المنطقة الحرة طوق نجاةٍ للحكومة للخروج من مأزق العجز عن تحقيق معدلات مقبولة للتنمية وتوليد الوظائف.
عمل رخيص وقريب، هذه هي كل القصة. قد تتساءلون ماذا جرى للمصانع في الصين؟ المشكلة في الصين هي أنه لا بد من إنتاج كميات كبيرة والتركيز على منتجات محددة دون غيرها للمحافظة على سعر تكلفة منافس، كما أن جودة المنتجات المصنعة في الصين تبقى دون المستوى في كثير من الأحيان. ولهذا يمكن لـ “بوابة الأردن” أن تكون بيئة عمل وإنتاج ممتازة للأعمال المتوسطة. إلى جانب ذلك، لدينا قواسم لغوية مشتركة مع العرب أكثر بكثير من الصينيين، وعامل اللغة من أهم عوامل ازدهار الأعمال ونجاحها.
يا للعجب! أرأيتم كيف تدور عجلة الاقتصاد؟ في الماضي غير البعيد انتقلت المصانع من “إسرائيل” إلى الأردن، ومن هناك إلى الصين؛ والآن ها نحن نراها تعود من جديد للمنطقة. رؤوس الأموال لن تكف أبدًا عن ملاحقة اليد العاملة الرخيصة.
بالمحصلة، سيعمل في بوابة الأردن ما بين 7,500 و 10,000 أردني (وهذا فقط في المراحل الأولى- فمن المحتمل تضاعف العدد مستقبلًا) و 3000 إسرائيلي. لكننا نقف هنا أمام خطر الإحلال الاقتصادي – أو ما يعرف كذلك بالتآكل: يمكننا التنبؤ بأن المصنعين الإسرائيليين قد يستسيغون الزيادة في الأرباح والإيرادات الممكن تحقيقها بفضل الاعتماد على اليد العاملة الأردنية الرخيصة، فيقومون بإغلاق مصانع الداخل في “إسرائيل” وتسريح عمالها ذوي الأجور الأعلى من نظرائهم في مصانع بوابة الأردن. أضف إلى ذلك أن سكان وادي “بيت شان” (منطقة بيسان المحتلة) يحصلون في المعدل على أجورٍ تقل عن أجور نظرائهم في المدن الكبرى، كما أن الوظائف المحلية هناك شحيحة ما يعني أن اليد العاملة الإسرائيلية في تلك المنطقة ستكون هي أيضًا مفيدة بالنسبة لأصحاب رؤوس الأموال على كل الأحوال. وزارة التعاون المناطقي (الإقليمي) تُشدد على أنها لن تسمح لمثل هذا السيناريو بالتحقق. لكن، ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا.
مشاريع مشتركة
نحن نقف على الجانب الإسرائيلي من النهر وننظر على المصانع التي تم بناؤها في الجانب الأردني: مرشحات للسيارات، علف للحيوانات، أدوات مائدة بلاستيكية للاستعمال الواحد (disposable) وغيرها. لا نرى صناعات تكنولوجية فائقة (هاي-تك) ولا حتى متوسطة التقدم، لا شيء مرتبط بالتكنولوجيا هنا. وفقًا للرؤية المشتركة للمشروع، من المفترض – في يوم من الأيام – أن يتدفق الغاز إلى هنا ويقام معمل لتوليد الكهرباء، لكن قبل ذلك سيقام هنا مصنع للإسمنت. نحن الذين نتحدث إليكم، بالمناسبة، هاشم حسين منسق وزارة التعاون المناطقي (الإقليمي)، عادي اشكنازي رئيس قسم الاقتصاد والمشاريع في الوزارة، ودعئال ليفي الرئيس التنفيذي للشركة الاقتصادية “عيميك همعيانوت” (والتي تبني الجسر) ويورام كرين رئيس اللجنة التي يقع حدها الشرقي مع الأردن.
هنالك حراس يرافقوننا ويرافقونهم – أي الأردنيون – لكن يبقى المظهر العام للمنطقة والمحيط ككل ريفيًا بسيطًا بامتياز. دعائم الجسر ستُخرز ركائزها في أرضية قاع نهر الأردن الذي لا يبدو لي وكأنه عميق إلى الحد الذي يستدعي نصب جسرٍ بهذه التكلفة فوقه. في الأثناء، تعبر الشاحنات ذهابًا وإيابًا من “إسرائيل” إلى الأردن، تنقل الرمال (أو بالأحرى الوحل والطمي) بين الجانبين. ستبدأ أعمال الإنشاءات في آذار (2017). الجميع هنا يتحدث عن “الحساسية الأردنية” تجاه الإسرائيليين – يجب إنجاز الأعمال على الضفة الأردنية من النهر في أقصر وقتٍ ممكن وتقليص تواجدنا هناك، وعلينا ألا نتحدث مع الأردنيين في التفاصيل المثيرة للجدل. لقد تم إلغاء جولة لنا في الجانب الأردني كان مخططًا لها معهم في اللحظات الأخيرة دون إبداء الأسباب (كانت هناك عملية على بعد مئات الكيلومترات من الموقع).
يقول هاشم حسين: “الأردنيون تنقصهم الثقة بنا و لديهم الكثير من الشكوك تجاهنا. في نهاية المطاف، مضى 20 عامًا على توقيع اتفاقية السلام ولم نقم من جهتنا بأي عملٍ بناء. إحدى الأمور التي نعمل عليها الآن هي بناء الثقة. في الكثير من الأحيان، يَعِد الجانب الإسرائيلي بتنفيذ التزاماتٍ محددة لكن الأمور تتعقد وتبقى عالقة بسبب البيروقراطية. الأردنيون أيضًا حذرون للغاية في كل ما له علاقة بالمياه، هم يتعاملون مع مسألة المياه بقدرٍ عالٍ من الحساسية. فبعد اندلاع الحرب في سوريا ونزوح 2.5 مليون لاجئ سوري إلى داخل الأردن، إضافة إلى 1.5 مليونًا آخرين من العراق ومصر، باتت موارد المياه الأردنية غير كافية، يقلقهم أي تحركٍ من جانبنا باتجاه الأردن”.
“على مستوى القادة والجيش والأجهزة الأمنية، هناك سلام وتعاون جميل مع الأردن” يقول حسين، الذي سرعان ما يستدرك قائلًا “لكن على صعيد الشعب فلا شيء.. “إسرائيل” لم تعمل على التقريب بين الشعبين”
المصدر: http://www.globes.co.il/news/docview.aspx?did=1001171416