مقدمة العساس | تأسست “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل” (BDS) عام 2005. ومع مرور السنوات، اكتسبت الحركة الكثير من الزخم وحظيت بتأييد العديد من الهيئات والمنظمات والشخصيات المؤثرة حول العالم. استطاعت الحركة في السنوات الأخيرة تحقيق إنجازات استثنائية، فكان من ذلك دفع شركات كبرى – مثل G4S و Orange – إلى الخروج من السوق الإسرائيلية. لكن رغم ذلك، تدل المؤشرات الاقتصادية على ضآلة تأثير الـBDS على اقتصاد الاحتلال ككل، فأين يكمن الخلل؟
يعرض هذا المقال خلاصة تقرير أعده معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي حول تأثير الـBDS وخطط مجابهة “إسرائيل” لها، كما يسلط الضوء على مواطن ضعف الحملة و بعض أسباب محدودية تأثيرها.
ترجمة العساس | في شهر يونيو من العام 2015 أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أنّ حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) تشكّل تهديدًا استراتيجيًا لدولة “إسرائيل”، ودعا كلّ الأطراف لمحاربة هذه الحركة والنشطاء المنضوين تحت لوائها من أجل القضاء عليها. لبّت منظمات عدة حول العالم هذه الدعوة على وجه السرعة، عُرفت هذه المنظمات منذ سنواتٍ بدعمها المطلق “لإسرائيل”، وانضمت لها خلال فترة وجيزة جهاتٌ إعلاميّة محليّة مؤثرة كصحيفة “يديعوت أحرونوت” التي سارعت بدورها لإقامة مجموعات عمل بمشاركة صحافيين أجانب لمواجهة هذا “التهديد” الناعم. بالنسبة للـBDS، كان نداء نتنياهو بمثابة اعترافٍ رسمي بتأثير الحركة على الكيان الإسرائيلي، ومثّل ذلك إيذانًا رسميًا بتصنيف الحملة وداعميها كأهدافٍ جديدة “لإسرائيل” على الساحة الدوليّة؛ أتى ذلك بعد أكثر من 11 عامًا على انطلاق الشرارة الأولى للحركة، تعاملت خلالها الدولة العبرية معها باستخفافٍ بالغ. وكنتيجة طبيعية لإعلان الحكومة المفاجئ، خَيّم مناخ من الخوف على الجماهير الإسرائيلية والمتعاطفين معها من اليهود في الخارج، كما ازداد الاهتمام الدولي بهذه الحملة بشكل تلقائي. بات الكثير منهم يعتبرون نشطاء BDS كإرهابيين، رغم أن حركاتٍ شبيهة كتلك التي ساهمت في سقوط نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا (AAM) مازالت تعتبر حتى اليوم مثالًا على المقاومة الشعبية السلمية للظلم والاضطهاد ويُقابل رموزها في المحافل الدولية بكثير من الاحترام والتقدير. ولكن -وهنا يُطرح السؤال- هل لمحاولات المقاطعة المتكررة لدولة “إسرائيل” -والتي يقودها اليوم ائتلاف الـBDS- تأثير فعلي؟
في هذا التقرير الذي يحاول الإجابة عن هذا السؤال -عن طريق التركيز على مجالين أساسيّين: الاقتصادي والأكاديميّ- وُجد أنه برغم الضجّة المُتزايدة والمستمرة التي تحدثها دعوات المقاطعة، وبالأخص في الولايات المتحدّة وأوروبا، يبقى تأثير حملات المقاطعة على الأرض محدودًا ولا يتسبب حتى اللحظة بضرر استراتيجي لدولة “إسرائيل”.
البُعد الاقتصادي
خلال شهر يونيو من عام 2016 نشر موقع Bloomberg التحليلي نتائج بحث يتناول مدى التأثير الفعلي لحركة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات” على الاقتصاد الإسرائيلي. حركة المقاطعة المشهورة عالميًا بـBDS اختصارًا لـ(Boycott, Divestment & Sanctions) تعمل على فرض ضغط اقتصادي على “إسرائيل” من خلال مجموعة من أدوات المقاطعة الجماهيرية السلمية المتعلقة بالاقتصاد، الثقافة، الأكاديميا وغيرها. الهدف الأساسي للحركة هو انتزاع مطالب متعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني، سواء تحت الاحتلال أو في المهجر. ولكن بحسب البحث المنشورة نتائجه، سُجل في العام 2015 ارتفاع قياسي في إجمالي قيمة الاستثمارات الأجنبية الواردة إلى “إسرائيل” (235 مليار دولار)، من ذلك استثمارات أجنبيّة مُباشرة في “إسرائيل” وأخرى بالوكالة وعبر اتفاقيات وتفاهمات تبرمها الحكومة الإسرائيلية والشركات المملوكة لها. يفوق هذا المبلغ بضعفين المبلغ الذي سُجل عام 2005 (147 مليار دولار) – العام الذي انطلقت فيه حركة الـBDS -. تُظهر معطيات دائرة الإحصاء المركزية ارتفاعًا تدريجيًّا واضحًا في قِيم الاستثمارات الخارجية الواردة إلى الدولة العبرية خلال الإثني عشر -12- عامًا الأخيرة، ما يدل على ازدهار الاقتصاد الاسرائيلي رغم محاولات الـBDS إقناع المستثمرين الأجانب من أنحاء العالم سحب رؤوس أموالهم وتصفية استثماراتهم في “إسرائيل”.
الارتفاع الأكثر إثارة للإعجاب كان في حجم الاستثمارات الأجنبيّة الواردة إلى “إسرائيل” في مجال التقنية المتقدمة (الهاي-تك / Hi-Tech) عام 2015، فمن خلال 708 صفقة وجولة تمويل شاركت فيها شركات الهاي-تك الإسرائيليّة الناشئة، تمكنت هذه الشركات من جمع مبلغ قياسيّ بَلغ 43.4 مليار دولار. وبمقارنة أداء هذا القطاع بفتراتٍ سابقة، نجد أن شركات التقنية الإسرائيلية الناشئة في عام 2005 لم تجمع أكثر من 600 مليون دولار، وهو عام ميلاد حركة المقاطعة BDS.
السبب الأساسي لمحدودية قدرة الـBDS على المسّ بحجم الصادرات الصناعية الإسرائيليّة يرجع لكون معظم مخرجات الصناعة الإسرائيليّة هي منتجات صناعية وسطيّة (intermediate goods) تدخل في تصنيع منتجات أخرى، مثل منتجات شركة “إنتل – Intel” التي تُصنع في “إسرائيل” ويتم نقلها إلى ماليزيا لتستخدم ضمن مكونات العديد من الأجهزة الإلكترونية والرقمية. لذلك، بالنظر لكون المنتجات الاستهلاكية والمنتجات الصناعية النهائيّة (final goods) لا تشكّل جزءًا مهمًا من حجم الصادرات الإسرائيلية، فإن تركيز حركة المقاطعة على البضائع الإسرائيليّة الاستهلاكية مع إغفال تام للمنتجات الوسطية لا يضع “إسرائيل” أمام تحدٍ استراتيجيّ حقيقي.
على الرغم من أنّ المعطيات المذكورة في البحث لا تظهر أي ضرر واضح يطال الاقتصاد الإسرائيليّ نتيجة لحملة الـBDS، من الحكمة بمكان إدراك أنه في حال عدم وجود حملة المقاطعة كانت مؤشرات الأداء الاقتصادي الإسرائيلي لتكون أعلى مما هي عليه اليوم. ذلك بالإضافة إلى صعوبة قياس حجم التأثير النفسيّ للحملة على الشركات العالميّة التي أرادت في الماضي -أو ما زالت ترغب في- دخول السوق الإسرائيليّ، ولكنها عدلت عن ذلك نتيجة عدم رغبتها بالاستثمار في بيئة عالية المخاطر -اقتصاديًا- و المخاطرة برأس مالٍ يصعب التنبؤ بمصيره، أو حتى للحفاظ على سمعتها حول العالم بعيدًا عن التلطيخ بتهم التواطؤ مع نظام فصلٍ عنصري (أبارتهايد) التي باتت أعداد متزايدة من المستهلكين حول العالم لا تتهاون بخصوصها – خاصة مع توافر بدائل تجارية عديدة في أغلب الأحيان -.
البُعد الأكاديميّ
تعتمد محاولات جهات مختلفة وعلى رأسها حركة الـBDS تكريس ونشر نهج المقاطعة الأكاديميّة “لإسرائيل” على كون الحقل الأكاديمي حول العالم مجالًا يشغله غالبًا أناس يتبنون آراءًا ليبراليّة وحساسّة لحقوق الإنسان، إضافة إلى توفير البيئة الأكاديمية والجامعية أرضيّة خصبة لتشكيل وعي الأجيال القادمة من متخذي القرارات المحليين والعالميين وكسب تعاطف الشباب اليهود حول العالم.
على مرّ العقد الأخير قررت عدة اتحادات طلابية، مثل اتحاد الطلاب الوطني البريطاني واتحاد علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين، تلبية دعوة الـBDS لمقاطعة “إسرائيل” وجامعاتها أكاديميًا ورافق تلك التحركات تغطيّة إعلاميّة واسعة. إلا أن قرار المقاطعة الصادر عن الاتحاد البريطاني -الذي كان أحد أهم إنجازات الـBDS على الصعيد الأكاديمي- لم يمض عليه سوى أيام قبل أن ينشر ائتلاف يضم 133 جامعة بريطانية إعلانًا مضادًا نص على معارضة ورفض إدارات تلك الجامعات تعليق التعاون الأكاديمي البريطاني مع “إسرائيل”؛ التعاون الذي ازدهر في السنوات الأخيرة وعاد بأرباح ملموسة على الطرفين. وكذا كان الحال في الولايات المتحدة، حيث لقي قرار اتحاد علماء الأنثروبولوجيا الأمريكيين تبني نهج المقاطعة الأكاديمية “لإسرائيل” المصير ذاته في ظل معارضة العديد من أعضاء هيئات التدريس والإدارات الأكاديمية له. وكما هو الحال مع محاولات المقاطعة الاقتصاديّة، يظهر أن معظم حملات التسويق لمقاطعة “إسرائيل” أكاديميّا تحصد ضجّة كبيرة لكنّ نتائجها الملموسة على أرض الواقع تكاد لا تُذكر.
أحد ركائز حملة الـBDS للمقاطعة الأكاديمية هو التأثير على مصادر التمويل الأجنبيّة للجامعات الإسرائيليّة. لكن معطيات كثيرة تشير إلى ارتفاعٍ ملموس في حجم التبرعات الاجنبية التي تلقتها المؤسسات التعليمية في “إسرائيل” خلال السنة الماضيّة، والتي توجهت في معظمها لصالح برامج الأبحاث والتطوير في الجامعة العبريّة في القدس وجامعة بن غوريون في النقب. المعطيات ذاتها تشير أيضًا إلى أن المنح المالية الأجنبية لهذه الجامعات كانت في ازدياد مستمر وثابت على مرّ السنوات منذ بداية حملة الـBDS.
رغم محدودية قدرة الـBDS على المسّ بمنظومة التعليم العالي الإسرائيليّة، يجدر عدم الاستهتار بالعواقب الغير ملموسة والخفيّة لهذه المحاولات. حيث يسود القلق في الأوساط الاكاديمية الإسرائيلية منذ انطلاق حملات المقاطعة من إمكانية عدم قبول أو رفض طلبات الباحثين الإسرائيليين نشر أبحاثهم في المجلات العلمية العالمية أو عدم تمكنهم من الحصول على مِنح و ميزانيّات لتلك الأبحاث بسبب جنسيّتهم، أو بسبب رغبة الجهات المانحة بالنأي بنفسها على شبهة دعم أجندات إسرائيلية. إلا أنه ورغم هذا الخوف، تُبيّن الإحصاءات التي نُشرت مؤخرًا أنه من أصل 291 طلبًا من طلبات نشر وتمويل الأبحاث التي حصلت على موافقة مجلس الأبحاث الأوروبي في العام 2015، كانت 24 منها من نصيب باحثين إسرائيليين، ما يضع “إسرائيل” في المرتبة الخامسة بين 23 دولة أوروبيّة عضوة في المجلس، وفي المرتبة الأولى من حيث عدد المنح الممنوحة لباحثين أفراد.
هنالك قلق من نوع آخر يقضّ مضجع المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، فالمسؤولون فيها متخوفون من تغلغل أفكار وروح حركة الـBDS في النهج التربوي للاتحاد الأوروبيّ، والذي يعتبر الشريك والممول الرئيس للأبحاث في معظم مؤسسات التعليم العالي الإسرائيليّة. فتصريحات الاتحاد الأوربي المتعلقة بمشروع هورايزون-2020 (Horizon 2020) المشترك للأبحاث والتطوير -والذي تستثمر أوروبا بموجبه 77 مليار دولار في الجامعات الإسرائيليّة على مدى سبع سنوات- لم تكن على هوى الدولة العبرية. أوروبا أكدت أن البرنامج لن يدعم الأبحاث الإسرائيلية التي تتم في “الأراضي المُحتلّة” -الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية-، بل وطلبت الحصول على قائمة بأسماء الباحثين الذين يتلقّون التمويل للتأكّد من كونهم يعيشون داخل الخطّ الأخضر ولا يقطنون أو يعملون في المستوطنات المقامة على أراضي العام 1967.
لكن هذا الطلب في حقيقة الأمر لم ياتَ بجديد، فهو يعكس السياسة الرسميّة للاتحاد الأوروبيّ التي تجسّدت في اتفاق التجارة الذي وُقّع مع “إسرائيل” عام 1995، قبل انطلاق حملة الـBDS. الاتفاق نص على امتناع الاتحاد الأوروبي عن دعم أو تمويل أي مشاريع إسرائيلية تُقام خارج الخط الأخضر، بغض النظر عن طبيعتها طالما لم تكن بالشراكة مع الفلسطينيين.
وبالرغم من إثبات هذا التقرير لضآلة الضرر الذي سبّبته حملة الـBDS لدولة “إسرائيل”، ليس المطلوب هو الاستهتار أو التقليل من قُدرة الحملة على إلحاق الأذى بالدولة العبرية. بل على العكس من ذلك، تستطيع الـBDS ضرب الجسم الإسرائيلي في مقتل إن تمكنت من التأثير بشكل مباشر على آلية اتخاذ القرار السياسية في دول بعينها. هذه القدرة الكامنة – غير المفعلة حتى اليوم – تجعل لزامًا على الجهات الإسرائيليّة المختلفة متابعة نشاطات الـBDS ضد “إسرائيل”، و استغلال جميع الفرص الممكنة لتطوير العلاقات مع دول العالم ردًا على ذلك. من الجدير بالذكر أنه من المناسب ألا تتدخل دولة “إسرائيل” الرسمية في جهود محاربة الـBDS بشكل واضح وصريح، طالما أن حكومات الدول الأخرى لا تتبنى نهج المقاطعة رسميًا. على الدولة أن تفسح المجال “للدبلوماسية المدنيّة” وللمنظمات المجتمعيّة غير الحكوميّة أن تقود هذه الجهود بهدف منع انتقال المواجهة إلى الميدان الدوليّ الرسميّ. بالمقابل، تبقى أهمية الدور الرسمي لدولة “إسرائيل” في العمل على تغيير آراء ومواقف حكومات العالم تجاهها قائمة، وذلك عبر تصدير التقنية وتقديم الدعم والمساعدة أوقات الأزمات وطرح مبادرات تعاونيّة تمكّن هذه الحكومات من تحسين أوضاعها ودعم مصالح مواطنيها.
المصدر: معهد دراسات الأمن القومي (INSS)
http://bit.ly/2vlH1H2