ترجمة العساس | أسست النقابة الصهيونية وحركة العمل نظامًا مؤسسيًا متماسكًا من أجل استعمار البلاد عن طريق توفير النقابة للموارد المادية، مقابل تكفّل حركة العمل بتوفير الموارد الإنسانية المطلوبة، وذلك بهدف شراء الأراضي في فلسطين وتوظيفها، إلى جانب تشغيل القادمين الجدد.

وكانت بداية التحالف بين حركة العمل والنقابة الصهيونية سنة 1908، عند تعاونهما على إنشاء المستوطنة التعاونية الأولى – (كيبوتس) (مجموعة دچانيا) في منطقة “أم جوني” على شاطئ بحيرة طبريا. ويعزى نجاح هذا التعاون إلى ثلاثة عوامل: وجود أرض بملكية عامة والاستيطان المشترك والدعم المادي.  وبعد هذا النجاح، تحول التعاون بين النقابة وحركة العمل إلى النهج المتعارف عليه للاستعمار. مع الوقت، بدأ ميزان القوى بالتغيّر بين الحليفتين لصالح حركة العمل (التي تحولت لاحقاً لـ “حزب العمل”).

وتطورت الكثير من المستوطنات التعاونية بواسطة “البؤر الاستيطانية” التي أنشأها العسكر في بداية الأمر بعد الاستيلاء على أراضي العرب. بالإضافة إلى ذلك، كانت المستوطنات التعاونية المبنية على أراضٍ تابعة للصندوق القومي بمثابة مصنع مغلق، نتيجة لمنع غير اليهود من السكن أو العمل فيها إذ كانت مفصولة سياسيًا واجتماعيًا وماديًا عن باقي المجتمع، وهو ما يعتبر بداية ظهور مجتمع قومي يهودي منفصل.

وفي هذا السياق يذكر أن تملك الأراضي وبناء المستوطنات التعاونية كان له الدور الأهم في قيام دولة “إسرائيل” إذا ما قورن بدور بناء المدن اليهودية. ويعود ذلك لسبيين، أولاً ارتفاع أسعار الأراضي المدنية. وثانياً، عدم قدرة النقابة على فصل اليهود والعرب بشكل تام في سوق العمل بالمدن كما فعلت بالمستوطنات التعاونية التي كانت متجانسة عرقياً وخالية من العرب واليهود الشرقيين أحياناً كثيرة.

في فترة الانتداب البريطاني، أقيم حول المستوطنات التعاونية قطاع اقتصادي موسّع أساسه الفصل التام بين اليهود والعرب في مجال الزراعة والصناعة والبناء والمواصلات والتسويق وغيرها. بالمقابل، قامت النقابة الصهيونية بتطوير المدن والقرى بإنشاء مصانع وتوفير فرص عمل، خاصة للقادمين الجدد. وعليه، وبشكل فعلي، أقيم مجتمع يهوديّ قوميّ جديد ومنفصل ومنعزل.

القوة والديمقراطية

كان مفتاح نجاح حركة العمل هو محاولتها المستمرة لكسب ثقة أعضائها والسيطرة على الموارد المادية التي كانت توفرها النقابة الصهيونية. إذ مكّنت هذه الموارد حركة العمل من ضبط ومعاقبة كل من يخالف أو يعارض مؤسساتها أو سياساتها، كما حافظت الحركة على تقدمها وسيطرتها على حساب النقابة الصهيونية بفضل وجود أعضاء “مخلصين”.

وضمن سياسة الضبط التي انتهجتها حركة العمل، قامت بمنع خصخصة الأموال العامة تجنباً لاستخدامها لمصالح شخصية، كما سيطرت على المنظمات والمؤسسات الاشتراكية أو الرأسمالية التي شكلت خطرًا على الأهداف الصهيونية للحركة وسياستها. هذا إلى جانب إنشاء نظام وترتيب سياسي، الأمر الذي ظهر في المستوطنات التي بدت مشبعة فكريًا ومطبقة عمليًا لسياسة ونهج الحركة.

ولضمان السيطرة، قامت الحركة بتوزيع المكافآت المادية على أعضائها المخلصين، أي قامت “بشراء” الدعم بكل ثمن. إذ استغل أعضاء الحركة حاجة السكّان لموارد مادية من أجل تجنيدهم. نتيجة لذلك، خلقت علاقة اعتماد ومصلحة متبادلة بين السكان وأعضاء الحركة مما أثر على المبنى السياسي للحركة وعلى المبنى الاجتماعي العام.

لهذه الغاية، تشكّلت طبقة نخبوية كاملة من النشطاء الحزبيين داخل حركة العمل، الذين تمثلت إنجازاتهم بتجنيد الدعم للنقابة الصهيونية والحركة. وإضافة لذلك، شكّلت نخبة من المدراء الاقتصاديين التابعين للحركة مباشرة مما ساعد على إبراز هيبة حركة العمل وتقوية مكانتها.

وتتلخص سياسة حركة العمل بتقييد الديمقراطية عن طريق هيمنة أعضاء الحركة وتحييد المعارضين عن طريق دمجهم أو تجاهلهم، هذا إلى جانب منح حقوق مدنية للأوساط والقطاعات وليس للأفراد. ومحاولة التأثير على الجيل الشاب ودمجه بما يتوافق مع آراء ومبادئ زعماء الحركة.

أي إن الحركة عملت على تنشئة “مواطنين متعلقين” بواسطة منحهم امتيازات مادية ومنصبية. لذلك، لم تظهر الديمقراطية بالشكل المتحرر التي يجب أن تكون عليه، أي التي ترتكز على أساس الاعتراف بحقوق الفرد وأهمية مشاركته بالميدان السياسي وعلى حمايته من تعسفات الدولة. إنما اتبعت سياسات ونهج يحول دون تشكيل ديمقراطية تحررية.

 

المصدر : كتاب “من هو الإسرائيلي” للباحثين “يوئاف بِلِد” “وغرشون شابير”، الفصل الأول، صفحة: “68-76”.