ترجمة العساس | كان من الطّبيعيّ أن يُعتبر هدف “حركة العمل”، وهو إقامة دولة قوميّة يهوديّة اشتراكيّة في أرض “إسرائيل”، فكرة ثوريّة. فتوجّه هذه الحركة كان عالميًّا؛ إذ وعدت بدمج الفئات المضطهدة من المهاجرين اليهود في شبكة المؤسّسات الأولى وخلق مجتمع جديد في نوعيّته وطبيعته، مما لا شكّ فيه مشروع هذه الحركة كان هدفه الهيمنة بالدرجة الأولى.

يتمحور هذا المقال حول المرحلة المفصليّة في “بناء الأمّة”، في الوسيلة الّتي اتّبعتها حركة “حزب العمل” من خلال تجنيدها الثقافيّ السياسيّ المتواصل الّذي أدّى لهيمنة ثقافيّة تقليديّة في الحركة الصهيونيّة. هذه الحركة ضمنت هيمنتها بين سنوات 1927-1937، إذ استطاعت أن تنجح وتصمد أمام تحدّيين: تحدٍ داخليّ؛ من المنظّمة الصهيونيّة العالميّة، وتحدٍ خارجيّ؛ من الشعب العربيّ الفلسطينيّ. وفي عام 1930 ائتلفت حركة العمل مع حركة العمّال الشباب وشكّلتا حزب عمال “إسرائيل” -ماباي-  (وهو “حزب العمل” اليوم) الّذي اعتبر قوّة حزبيّة كبيرة آنذاك.

بعد تأسيس هذا الحزب ارتأت بعض الفصائل والجماعات الحزبية الصغيرة الانضمام لإحدى مؤسسات “حزب العمل” مثل حزب “العامل الشرقيّ” الّذي انضم لصندوق المرضى التابع للهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية)، وآخرين بقوا على حزبهم مستقلين.

بذلك الانقسام نفهم الأثر الكبير لحزب العمل والقوّة الكبيرة التي اكتسبها في الساحة السياسيّة. هذه القوّة منبثقة ليس فقط على وظيفته السبّاقة، إنمّا أيضاً من الخدمات الاجتماعيّة الّتي وفّرتها للمواطنين ممّا زاد من الوزن الانتخابي لحزب العمل في الهستدروت (النقابة) الصهيونية. ولاحقاً سيطر “حزب العمل” عام 1933 على الهستدروت وعلى القسم الدولي في الوكالة اليهودية. وقد اعتبر هذا الحزب الأكبر في الهستدروت الصهيونيّة وشكّلت الإدارة فيه في الوقت الّذي انضم فيه بن غوريون وأصبح رئيسًا لها في عام 1935.

ولعبت الثّورة الفلسطينيّة 1936-1939 والصراع المحتدم حتّى حرب 48 دورًا كبيرًا في بلورة المبنى المؤسّساتيّ للهيمنة خاصّة حركة حزب العمل. فنرى بأنّ الإضراب العامّ للمصانع والعمّال العرب الفلسطينيّين شلّ الخدمات العامّة والسّوق الخاصّ باليهود ممّا قادهم إلى استبدال العمّال الفلسطينيّين بعمّال يهود، الأمر الّذي خدم أجندة حزب العمّال وخوّله بالسّيطرة على سوق العمل وقلّص أهميّة رؤوس الأموال الأفراد ونقلها إلى الهيمنة القوميّة المؤسسّاتيّة.

استراتيجية القوة العسكرية

وكانت أولى المحاولات في تشكيل قوّة عسكريّة دائمة في عام 1937، واعتبرت التداعيات الأمنيّة في ذلك الوقت -ولأوّل مرّة- أكثر أهمية من الاعتبارات الاقتصاديّة. ومع انطلاق الثّورة الفلسطينيّة في عام 1936 أُلحق الانضباط التّنظيميّ بالعسكري، وعرّف “حزب العمل” نفسه باسم “المستوطنة المنظمة” في الوقت الّذي أطلق اسم “المنشقين” على منظّمات شبه عسكريّة مستقلة مثل “هالحاي”، وهي منظمة يهودية حاربت الاستعمار البريطانيّ عسكريًّا واعتبرت منظمة إرهابيّة، انشقت عن المنظمة العسكريّة القوميّة.

تبنّت حركة “حزب العمل” استراتيجيّة التفريق للتصدي للصراع اليهودي-الفلسطيني، وبهذا أعلت من شأن الاستراتيجية القوميّة. واتّبع هذا الحزب طرقاً عدّة للترويج للصهيونيّة بواسطة توسيع الاستعمار حتّى في أصعب الظروف مثل الحروب الأهلية، وقد بدا لليهود بأن الحزب متوافق مع متطلّباتهم ومحقّق لمساعيهم بهيمنته القصوى،

وبهذا استطاع أن يصمد حتّى عام 1977، إلا أن قيادته كانت نخبويّة بالرّغم من محاولتها تمثيل المستوطنات كلّها فإنّها لا تستطيع احتواء الجميع.

التطوير المؤسساتي

واستثمر الحزب معظم جهوده في الإعمار وتقويّة فرعه ونشاطه الاجتماعيّ الاقتصاديّ، كشركة العمّال ومؤسّسات الهستدروت والشبكة التعاونيّة. كما سعى لتوسيع الإطار المؤسّساتيّ ولجذب القادمين الجدد (المهاجرين اليهود) والعوام والمتديّنين بغية تحييدهم.

لكن تبعية حزب العمل للنقابة الصهيونيّة العالميّة حدّت من نفوذها واستقلاليتها باتّخاذ أي قرار بشكل فردانيّ دون مراعاة الآخرين الّذين اختلفوا بآرائهم ومعتقداتهم ومصالحهم عن الحزب. فنجد بأنّ حزب العمل لم يتّبع مبدأ “العالميّة” في منح الحقوق الّتي نادى بها بل كانت الاعتبارات قومية خالصة، وعليه استثنيت فئات عدّة من نيل هذه الحقوق كالعرب الفلسطينيّين، وبهذا نستنتج بأنّ هيمنة “حزب العمل” في بناء الأمّة استعماريّة شاملة وحديثة في الوقت نفسه.

لم تُقم الدّولة على مفهوم التعدّديّة المطلقة أو التوافقية، ففي حين أنّ الفئات الاجتماعيّة المختلفة صُنّفت بترتيب صارم ضمن إطار المواطنة لحزب العمل، إلا أنها لم تعتبر هذه هيمنة مطلقة لأنّ الحزب لم يستطع ولم يرد استيعاب كل الفئات المجتمعيّة في مؤسّساته.

كانت الدّولة اليهوديّة المهيمنة تشكّل إطارًا واسعًا للمؤسّسات الوطنيّة الّتي مكّنت مواطنيها من نيل حقوقهم، وقد ميّز هذا الهدف كلّ الأحزاب السياسيّة الصهيونيّة. لكنّ ما ميّز “حزب العمل” عن غيره في هذا الصدد هو قدرته على تحقيق هذا الهدف بنجاح باهر، مما أكسبه راية القيادة الأخلاقيّة والسياسيّة. أمّا سرّ قوّة هذا الحزب فإنه يكمن في الانطباع الّذي استطاع أن يثيره بأنّه الوحيد القادر على تطبيق الأجندة القوميّة الصهيونيّة بإقامة دولة قوميّة يهوديّة على أرض “إسرائيل”، فالمفتاح لهيمنة “حزب العمل” لم يكن الجانب الاجتماعيّ إنما القوميّ!

 

المصدر : كتاب “Being Israeli”- מיהו ישראלי