مقدمة العساس | تتناول هذه المقالة انتقال الفلسطينين المقدسيين للعيش في المستوطنات التي بنيت في شرقي القدس بعد عام 1967 وعلى وجه الخصوص التلة الفرنسية كأساس لمناقشة ما يطلق عليه الحيّز الاستعماري المدني. هذا الانتقال إلى المستوطنات يعطّل مشروع التهويد، فمن المعروف أن المستوطنات قائمة بالأساس على فكرة الفصل العرقي بين اليهود والفلسطينيين، وبالفعل بالنظر للمستوطنات خارج مدينة القدس، بالضفة مثلاً، نلاحظ أن المستوطنة عبارة عن “غيتو” كبير ومحصّن يفصل اليهودي عن المحيط الفلسطيني، وكذلك المستوطنات داخل الخليل محصنة ومسلّحة ولكن وضع القدس القانوني والجيوسياسي جعل الفلسطيني المقدسي يعيش مفارقات صعبة.

ترجمة العساس| يتكوّن الحيّز المدني، على كثافته وتنوعه، بطريقة مثلى ليستخدم كحيّز مفتوح لتدفق بشري متعدّد. تركز وجهة النظر الليبرالية على الاعتقاد أن المدينة قادرة على خلق “حيّز مفتوح” يعيق الهرميات القائمة والحدود القائمة للبنى الإثنية والطبقية. رغم ذلك ومثلما وضحّنا، هذه وجهة نظر جزئية فقط، وفيما يتعلّق بالمستوطنات بالقدس فهي لا تقوم فقط على تقسيم “عرب\ يهود”، وإنما تعتمد خطوط تقسيم إثني أخرى نابعة من طبيعة المجتمع الاستيطاني الإسرائيلي.

لا ينعكس إسهام هذه المقالة فقط في فحص العمليات الكليّة – الاحتلال، الاستعمار،  والعمل الحدودي- إنما أيضاً في تحليل الديناميكيات في المدينة الاستعمارية القائم على الحياة اليومية. يكشف النظر إلى هذه العمليات الجيو-سياسية الوضع المتناقض للحيّز الاستعماري، مثل التلة الفرنسية. التلة الفرنسية هي مستوطنة راسخة، تم تحويلها إلى حيّ “طبيعي” بطريق مختلفة من ناحية هندستها المعمارية وتخطيط البنى التحتية، لكن بالمقابل، فإن وجودها  كحي مترامي الأطراف على الحدود القديمة يجعلها مساحة خاضغة للمفاوضات وبالتالي لحركة هجرة وسكن غير متوّقعة. إن مفارقة حدود الصراع التي هي أيضاً ضاحية “خالصة” هي سمة مميزة للعديد من المستوطنات الإسرائيلية. ولكن التلة الفرنسية عرضة للانقسام بسبب التحدي الذي وضعه سكانها الفلسطينيون في قلب المجموعة السكانية اليهودية المتجانسة.

ما معنى مساحة مشتركة في مدينة تدار وفق مبادئ استعمارية، خاصة عند مقارنتها بمساحات مختلطة أخرى في إسرائيل، مثل حيفا أو “الناصرة العليا”، حيث على الرغم من عدم المساواة، من الواضح أن هناك مساحة عامة مشتركة؟ يمكن القول، إلى حدّ ما، أن هناك تداخل وظيفي في الحيّز العام والحيّز التجاري في التلة الفرنسية، ويوجد في الحارة فعاليات رياضية متاحة لكلّ السكان. هذه الظاهرة مميّزة لمدن كثيرة في الغرب للطبقة الوسطى حين يتقابل الأغراب ويبقون الواحد لجانب الآخر، ويعملون سوياً ومع مضي الوقت يظلون أغراباً.

في حين أن القدس هي مدينة صراع وفي نفس الوقت لا يوجد أساس حقيقي لمقولات التعددية ولا سعي لتحقيقها. إن هجرة الأقليات القومية والعرقية لحارات الطبقة الوسطى “البيضاء” ليست ظاهرة إسرائيلية خاصّة بل رصدت في كثير من الأدبيات. وفي نفس الوقت، فإن خطاب الاحتواء والإقصاء، الحدود والقيود، والتحكم الديمغرافي، الأمن والانفصال، مرتبطة بخطاب قديم منتشر ليس فقط في أوساط الباحثين والسياسيين إنما وسط الجمهور الذي يرسم “إسرائيل” على أنها غيتو إقليمي، وهو مكان يعدّ ملجئاً وجزيرة معاً.

حالة التلة الفرنسية تطرح عدة فرص للمشاركة. إذ تشترك المجموعتان اللتان تعيشان هناك في أوجه تشابه اقتصادية ومهنية: إنهما ينتميان إلى الطبقة الوسطى، متعلمين ويعيشون نمط حياة برجوازية نموذجي. هل ستساعد هذه التشابهات في نهاية المطاف على إنشاء حي سكني هادئ، إن لم يكن ودودًا؟

يطرح هذا البحث الكثير من الأسئلة، ولكنه يوضّح أن الاستيطان المدني، مثل حارة “هلفييين هيورشالمي”، هي نتيجة قوة حكم استعماري وأذرعه التنفيذية. تصلح هذا النظرية أيضاً للمستوطنات العادية المنفصلة عن محيطها وعن الحيّز الفلسطيني كلياً. إضافة لذلك يشير البحث إلى القوة الاقتصادية اليومية النابعة من الكثافة المدنية ومن الالتقاء القسري بين مجموعات مختلفة. بكلمات أخرى، الاستيطان في المدن يعيد صياغة الحدود والمجالات سواء تجاه الخارج أو الداخل، وهذا ليس فقط بسبب العمل العسكري (الاحتلال) أو الاستيطان. وكما ذكر عدة مرات في البحث فإن مفارقة المدينة الاستعمارية الحالية يتيح وجود آلية “إضافة العرب”، وهي آلية تجمع بين العنصر المدني والاجتماعي والاقتصادي.وهكذا، فإن أنماط الهجرة، مثل هجرة الفلسطينيين إلى التلة الفرنسية وتدفق رأس المال في السوق الحرة، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهياكل الرسمية، وأحيانًا تولّد تُحدث نتائج غير متوقعة في آليات السيطرة أو في السياسات غير العادلة.

ليس من المستغرب العثور على حدود حضرية راديكالية في القدس تنتجها آلية التخطيط التي هيمنت على المدينة منذ عام 1967. لكن التلة الفرنسية، بسبب موقعها الجغرافي على الجبهة، تتيح درجة معينة من التفاوض بين المشترين الفلسطينيين والبائعين اليهود، وهذا بدوره يشقّ التجانس الديموغرافي الذي يمليه المشروع الاستعماري. هذه هي مفارقة التمدن الاستعماري في القدس المعاصرة: من جهة، هناك تأثير قوي لتطبيع الاحتلال المنظم من خلال آليات مختلفة، مثل القانون والتخطيط وأنظمة الدولة، ومن جهة أخرى فتح السوق كسلاح ذو حدين، السوق الذي يجذب الفلسطينيين.

يمكن أن تساعد عملية التطبيع في عملية التهويد، لكنها بمقدورها أن تهدد هذه العملية أيضاً من خلال تحطيم الثنائيات القومية العرقية. ومع ذلك، من الخطأ وصف حالة عدم الاستقرار هذه بشكل إيجابي. إن الاعتماد على الإمكانيات التي يوفرها إسكان السوق الحر من خلال “الإضافة العربية” كأداة لتحقيق الحق في المدينة أمر إشكالي، ويرجع ذلك أساساً إلى أنه يتجاهل وعد المدينة بأن تكون مساحة للمجاورة والحياة. في هذا السياق، يمكن القول إن المجاورة، بمعناها الحديث، تتطلب المساواة، سواء بالمستوى القانوني أو العملي. هذه المساواة لن تتم في ظل الظروف الاستعمارية الحالية ولا من خلال الاعتماد المتزايد على الحراكات الاجتماعية-الاقتصادية.

المصدر: https://bit.ly/2t0fFUx