لم تسلم الرواية التي طُبعت في أذهان العالم العربي حول الجاسوس المصري رأفت الهجان ، المعروف في “إسرائيل” باسم جاكي بيتون، من محاولات النفي الإسرائيلية، إذ كان واحدًا من أكثر الجواسيس لفتًا للأنظار إليه.
وفي حين تؤكد زوجة الهجان والسلطات المصرية أنه تمكن من حرق عملاء إسرائيليين عدّة، ونقل معلومات حساسة عن “إسرائيل”، تمثّلت بموعد العدوان الثلاثي وحرب 1967، بينما تصرّ الأخيرة في كثير من رواياتها على أنها جنّدته لصالحها كعميل مزدوج.
ومات الهجّان على فراش المرض بعد صراع مع السرطان ودُفن في مصر.
هذه المادة تتحدث عن محاولة “إسرائيل” إخفاء فشلها في كشف الجاسوس المصري رأفت الهجان، من خلال الادعاء أنه كان عميلًا مزدوجًا لصالحها.
اسمه الحقيقي رفعت الجمال، ولد في دمياط في صعيد مصر عام 1972، أجاد الإنجليزية والفرنسية في سن مبكرة، وحلم بأن يصبح نجمًا سينمائيًا ذات يوم، إلا أنه اكتفى بأدوار ثانوية حتى سافر إلى أوروبا، حيث ارتكب بعض عمليات الاحتيال والتزوير، واعتقلته الشرطة المصرية عام 1952 خلال إحدى زياراته إلى مصر.
تلقّفه حينها جهاز المخابرات المصري حديث الإنشاء الذي كان قد تبلورت لديه فكرة زرع جاسوس مصري داخل “إسرائيل”، ولفت الجمال نظر المخابرات ليتم منحه خيارين، إما السجن أو العمل لصالحهم.
مهمة رأفت الهجان الأولى كانت التغلغل داخل المجتمع اليهودي في الإسكندرية ونقل أخبارهم للسلطات المصرية، إذ نجح في اختراقه واستطاع -وفق رواية إسرائيلية- كشف شبكة تجسس و”تخريب” في مصر، كانت مسؤولة عن التفجيرات والأعمال الإرهابية، وتم تفعيلها من قبل الوحدة 131 التابعة لجهاز أمان (جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية)، وهي العملية المخابراتية التخريبية المعروفة باسم “سوزانا”.
وتمكن الجمال أو رأفت الهجان من صناعة غطاء متقن بتقمص شخصية يهودية باسم “جاك بيتون” الذي هاجر إلى “إسرائيل” بحرًا عن طريق فرنسا، وبأوامر من المسؤولين عنه، أقام شركة سياحة في شارع بيرنير في تل أبيب، لتكون غطاءً لنشاطه الاستخباراتي، وبناء علاقات مع النخبة السياسية الإسرائيلية.
وخلال رحلة عمل لألمانيا عام 1963، تعرف على فالتراود شيفلت، مطلقة وأم لطفل واحد، وتزوجها، ورزق منها بطفل وحيد، اسمه دانييل، أقيمت له حفلة بلوغ (طقس بار ميتسفا اليهودي) في الكوتيل (الاسم الإسرائيلي لحائط البراق، الحائط الغربي للمسجد الأقصى). وفي سنوات الـ 70، استقر الزوجان في ألمانيا، وتوفي الجمال عام 1982 بسبب السرطان. (1)
بعد انتشار تفاصيل وخفايا العملية المخابراتية، التي طالما كانت محطّ اعتداد المخابرات المصرية، حاولت السلطات الإسرائيلية نسج رواية تفنّدها وتطعن بها. إذ تشير هذه الرواية إلى تجنيد رفعت الجمال من قبل السلطات المصرية بعد اعتقاله لمخالفة القانون بعدة تهم، إضافةً إلى تخييره بين العمل كجاسوس وبين السجن لأعوام كثيرة قد تصل إلى المؤبد، فاختار التجسس، وجاء إلى “إسرائيل” كمهاجر يهودي باسم جاكي بيتون، بعد خضوعه لدورة تدريبية.
وتضيف الرواية الإسرائيلية أن شريكه في العمل بـ “إسرائيل” قد كشفه، إذ أبلغ جهاز الأمن العام “الشاباك” عن المهاجر الجديد الذي كوّن ثروة ضخمة ويعود بالكثير من الأموال بعد كل رحلة من رحلاته الكثيرة إلى خارج البلاد.
اقرأ أيضًا.. عمليّة سوزانا: كيف تحوّل يهود مصريون إلى عملاء موساد
وأدى التعاون بين الشاباك والموساد لكشف لقاءاته مع الضابط المصري المسؤول عنه، وتم اعتقاله في المطار بعد أحد هذه اللقاءات، فيما عرضت “إسرائيل” عليه السجن لعشرات السنوات بتهمة التجسس أو العمل كعميل مزدوج، واختار الخيار الثاني بعد مدة قصيرة فقط، وأطلقت عليه اسم “ييتد” (حصة).
وكجزء من تحويله لعميل مزدوج، سمح الشاباك له بتصوير أحد قواعد الجيش الإسرائيلي ونقل معلومات مدروسة للإسرائيليين أغلبها حقيقي، وبالمقابل، زود الشاباك المصريين بمعلومات مضللة من خلاله. وادعى رئيس الشاباك في حينه، أبراهام أحيتوف، أن بيتون (رفعت الجمال) حقن دماء إسرائيلية كثيرة، وبفضله كان الجيش المصري غير مبالٍ قبيل حرب الأيام الستة، لذلك كانت طائراته على المدرجات دون حماية، ما أتاح لـ “إسرائيل” تدميرها قبل انطلاق أي منها. وذكر أحيتوف أن تأثير بيتون كان يعادل كتيبة جيش كاملة.
وبعد 18 عامًا، توقف نشاط رفعت الجمال وخضع للعلاج حتى مات بالسرطان. لم يعلم المصريّون حول عمله كجاسوس مزدوج وادعوا في كل وسائل الإعلام أنه من كشف الجاسوس إيلي كوهين، وبالإضافة لذلك، أطلقوا اسمه على شوارع وميادين عامة وصنعوا من قصته مسلسلات وأفلام كثيرة. (2)
وفي رواية أخرى شبيهة لنفس المحاولات الإسرائيلية، يروي موتكيه شارون، ضابط الشاباك الذي تدعي “إسرائيل” أنه المسؤول عن رفعت الجمال أو رأفت الهجان ، أن كشفه كان بفضل موسى أبراموفيتش، الذي كان يعمل في حينه في الوحدة الخاصة في جهاز أمان، التي كانت مسؤولة عن استجواب المهاجرين الجدد، إذ تم طلبهم إلى مكتبه في شارع ألنبي في تل أبيب، وسألهم إذا ما توجهت إليهم أجهزة استخبارات أجنبية وحاولت تجنيدهم كجواسيس في “إسرائيل”.
كما طلب منهم التبليغ عن أي تصرف يثير الريبة من رفاق رحلتهم إليها. وأبلغ كثير منهم عن التصرفات الغريبة للجمال على متن السفينة التي جاءت بهم من فرنسا إلى حيفا، بعد أن تم نقله من إيطاليا إلى فرنسا من قبل السفارة الإسرائيلية في روما.
وقال شارون: “إن الشكوك تعاظمت حوله بعد استدعائه للاستجواب، ونقلت المعلومات إلى الشاباك، حيث تولّت “وحدة المهمات الخاصة” مهمة تتبعه، بدءًا من شقته المستأجرة في تل أبيب. وخلال فترة قصيرة ظهرت صفة أساسية لدى بيتون الشاب، وهي شغفه بالنساء وملاحقتهن”.
ويتابع شارون: زادت الشكوك بعد عملية الملاحقة، وبناءً عليه قرر الشاباك التصعيد، إذ اقتحم رجال الوحدة الخاصة شقته ووجدوه في فراشه مع فتاة شابة، أمروها بارتداء ثيابها ومغادرة المكان على الفور، بعد أن طمأنوها بأنها لا علاقة لها ولن تصاب بأي أذى، وطلبوا منها ألا تخبر أحدًا بما حدث، كما طلبوا من بيتون بعدها مرافقتهم إلى مقر التحقيقات لدى الشاباك.
يوسف هرملين، الذي تولى لاحقًا رئاسة الشاباك، كان في انتظاره في الغرفة مرتديًا ملابس ضابط جيش. وكان والمحققين الآخرين حادين وعدوانيين معه، وتمكنوا من كسره بعد فترة قصيرة. لقد كانت قصة التغطية ومعلوماته عن الديانة اليهودية و”إسرائيل” متواضعة، إذ كان من الواضح أنه ليس يهوديًا وليس مهاجرًا جديدًا حقيقيًا. ووضعه هيرملين أمام خيار من اثنين، إما العمل معنا أو السجن مدى الحياة، لكنه وافق على أن يكون عميلًا لنا. (3)
ملابسات عدّة تكتنف هذه المحاولات الإسرائيلية لتفنيد الرواية العربيّة السائدة عن الجمّال، حيث أن مصادر إسرائيلية أخرى كانت قد اعترفت بوجود نشاط استخباراتيّ مصريّ وشبكة جواسيس على درجة عالية من الكفاءة، من بينهم المصريّ كيبورك يعقوبيان الذي كشفته المخابرات الاسرائيلية بعد سنوات من النشاط بين (1961-1963) م، وسجنته قبل أن يتم إطلاق سراحه بعملية تبادل.
وقد أكدّت وسائل إعلام إسرائيلية حقيقة وجود شبكة مخابرات مصرية تعمل داخل “إسرائيل”، ومن بينهم رفعت الجمال، معنونةً التقرير تحت اسم “اختراق مصري في تل أبيب”.
ومن جانب آخر يكشف تعدد الروايات الإسرائيلية حول الموضوع، من خلال نفى نائب رئيس المخابرات الإسرائيلية- الشاباك، السابق، جدعون عزرا، في مقابلة لبرنامج “سري للغاية”، معرفته بوجود جاسوس تحت اسم جاك بيتون، الأمر الذي أكد نفيه للرواية الإسرائيلية المضادّة كذلك.
بعد اعتقاله وشنقه في دمشق، فتحت أجهزة المخابرات الإسرائيلية تحقيقًا لمعرفة كيفية توصّل السلطات السورية إليه، ورجّحت إمكانيتين لم تُحسم أيٌ منها، الأولى هي أن المخابرات المصرية هي من توصّلت لهويته الحقيقة وأبلغت السوريين.
والثانية، وهي الأكثر ترجيحًا، أن كثرة المعلومات التي طلبها المسؤولون عنه أدّت إلى زيادة التواصل باللاسلكي، ما سمح للسوريين بالتقاط البث وكشف كوهين عام 1965 متلبسًا خلال بثه تقريرًا لمقر الموساد في تل أبيب.
لكن أرملة رفعت الجمال، فالتراود شيفلت بيتون، صرّحت في أكثر من مناسبة أن زوجها الراحل كان جاسوسًا مصريًا في “إسرائيل”، وأنه من كشف هوية إيلي كوهين للمخابرات المصرية التي أبلغت المخابرات السورية بهويته الحقيقية، وأن الجمال كتب هذا الأمور ضمن أمور كثيرة أخرى في مذكراته.
مقالات ذات صلة: إيلي كوهين: أخطاء تنسف رواية الأسطورة
ووفق تصريحاتها، كتب رفعت في مذكراته عن أيام تغلغله في المجتمع اليهودي في الإسكندرية، أنه كان على علاقة بمارسيل نينيو التي حُكم عليها بالسجن لأربعة أعوام بسبب انخراطها في شبكة “أمان”، وبإيلي كوهين أيضًا، وأن الجمال وكوهين اعتُقلوا سويًا في مصر عام 1954.
أطلق سراح الجمال في حينه بعد معرفة السلطات أنه عميل للمخابرات المصرية، كما تم العفو عن كوهين بعد اقتناع المحققين ألّا علاقة له بالشبكة، ولم يلتقِ الاثنان بعد الاعتقال المشترك.
وعام 1957، هاجر كوهين إلى “إسرائيل” وتم تجنيده فيما بعد، وأُرسل إلى سوريا بعد فترة من إقامته في الأرجنتين من أجل بناء قصة تغطية.
وتروي أرملته أنه توقف في كشك لبيع الصحف في مدينة فرانكفورت خلال إحدى زياراته لألمانيا، ولمح على إحدى الصحف العربية صورة كامل أمين ثابت مُحاطًا بضبّاط من الجيش السوري خلال جولة في هضبة الجولان، على طول الحدود مع “إسرائيل”. وسارع بعدها إلى إبلاغ المسؤولين المصريين أن كامل ثابت هو ذاته إيلي كوهين، اليهودي من الإسكندرية، الذي اعتقل معه بشبهة الانضمام لشبكة الإرهاب اليهودي. كما نقلت المخابرات المصرية هذه المعلومات للمخابرات السورية التي اعتقلت بدورها الجاسوس.(4)
المصادر:
(1) “هآرتس”: https://bit.ly/3fkkHRR
(2) “ماكو “: https://bit.ly/2XfXVV4
(3) “معاريف”: https://bit.ly/3giFhmY
(4) “موقع الشاباك”: https://bit.ly/2XfCcwI
(5) “هآرتس”: https://bit.ly/2D08ghe
طالما قمعت قوات الاحتلال الإسرائيلي المصلين في المسجد الأقصى بمختلف الطرق، وربما كان أبرزها مؤخرًا…
يستعدّ المسيحيون للاحتفال بعيد الفصح وسبت النور بكنيسة القيامة في القدس، فيما ينشغل الاحتلال، كعادته؛…
قبيل النكبة، سكن مدينة حيفا نحو 61 ألف فلسطيني، وبقي فيها أقل من 20 ألف…
باتت مسيرة الأعلام أو رقص الأعلام في البلدة القديمة في القدس طقسًا مكررًا للاستفزاز والتصعيد…
يمتدّ تاريخ الصراع حول الأذان حتّى ما قبل النكبة؛ في العقدين الثاني والثالث من القرن…
لا يقتصر القمع الإسرائيلي للفلسطينيين على الأحداث الميدانية المشتعلة في القدس والمسجد الأقصى، بل إنه…