لم يكن النقاش حول فكرة “الضم” جديدًا، من حيث المبدأ، على السياسية الإسرائيليّة، فمع انتهاء النكسة في حزيران/يونيو من عام 1967، كان على “إسرائيل” التعامل مع واقع جديد نشأ نتيجة استيلاء الجيش الإسرائيليّ على مناطق واسعة للغاية، يكتظ قسم منها بالسكّان المدنيّين “المعادين” لها. وقد خلق الوضع الجديد حاجة لتنشيط حكم عسكريّ من أجل إدارة حياة السكّان الذين أصبحوا تحت السيطرة الإسرائيليّة، وبالتالي تحت مسؤوليّتها.
هذه المادة المترجمة (المنقسمة على ثلاثة أجزاء)، تعرض نقاط الخلاف والنقاش الذي حدث في “إسرائيل” بعد انتهاء النكسة، على كيفية التعامل مع الأراضي التي تم احتلالها، سواء بضمها أو المساومة عليها.
في الجزء الثالث تتطرق المادة إلى السياسات الاستراتيجية بالمفهوم الاسرائيلي التي رُسمت تجاه القدس والاستيطان بعد عام 1967.
السياسات المتعلّقة بالقدس
تمركز الاهتمام والموقف التاريخيّ العاطفيّ، والقوميّ-الدينيّ بطبيعته، في منطقة القدس والضفّة الغربيّة، فبعد ثلاثة أسابيع من انتهاء الحرب، اتّخذت “إسرائيل” قرارًا بتطبيق القانون والحكم الإسرائيليّ على القدس الشرقيّة، والتي تبلغ مساحتها سبعين ميلًا مربّعًا، وعدد سكانها ما يقارب 70 ألف فلسطينيّ.
سمحَ إلحاق هذا الجزء من القدس إلى “إسرائيل” بتوسيع المنطقة التابعة لبلديّة القدس، وتحويل تيدي كوليك، رئيس البلديّة اليهوديّ رئيسًا على هذه المنطقة الموسّعة من خلال حلّ مجلس المدينة الأردنيّ. وقد عُرض على القيادة الفلسطينيّة المحلّيّة الانضمام إلى بلديّة مدينة القدس الموسّعة، لكنّ أعضاءها صرّحوا أنّهم يعتبرون الحكم الإسرائيليّ في القدس الشرقيّة حُكم احتلالٍ، وأنّ وضع القدس مشابه لوضع جميع المناطق الأخرى المُحتلّة في الضفّة الغربيّة.
لقد تردّدت الحكومة الإسرائيليّة بالنسبة لوضع الفلسطينيّين الموجودين في المنطقة الموسّعة هذه، خاصّةً فيما إن كان يجب اعتبارهم كفلسطيني الداخل، الذين يتمتّعون بالجنسيّة الإسرائيليّة الكاملة أم لا. وقد كان يعكوف شمشون شفيرا هو من اقترح منحهم جميعًا رُتبة أو درجة مواطن، مع حصولهم على جميع الحقوق التي يتمتّع بها المواطن الإسرائيليّ. في الوقت نفسه، اقترح أن يحصل كلّ شخص يرغب بذلك على الجنسيّة الإسرائيليّة الكاملة دون فرض ذلك عليه. ما حدث في الواقع أنّ الغالبية العظمى من سكّان القدس اختاروا التمسّك بجنسيّتهم الأردنيّة الأصليّة، أمّا القلّة التي اختارت الحصول على الجنسيّة الإسرائيليّة كانوا بشكل رئيسي من العرب الأرمن، ومسيحيّين آخرين من سكّان البلدة القديمة.
بشكل موازي لتوسيع منطقة القدس، تبنّت “إسرائيل” سياسة إسكان القدس الشرقيّة بأحياء يهوديّة. كان لإسرائيل هدفًا مضاعفًا من وراء هذا الإسكان، خلق دليل سياسيّ على جدّيّة مقاصدها، نواياها وغاياتها، وخلق حقائق على وجود سكّان إسرائيليّين يهوديّين، الذين لا يمكن عودتهم ولا اقتلاعهم من المكان مرّة أخرى.
سياسة المستوطنات
كان واضحًا للجميع، ومنذ الأيّام الأولى للحكم الإسرائيليّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، أنّه ستكون هناك آثارٌ بعيدة المدى للمستوطنات الإسرائيليّة التي سيتمّ بناؤها فيها. هدفت إقامة هذه المستوطنات إلى خلق حقائق جديدة في الميدان، للتأثير على الحلّ السياسيّ المستقبليّ. هذا على النقيض من موقف الحركات اليساريّة في “إسرائيل”، التي التزمت بالموقف الدوليّ وأنكرت كلّ استيطان إسرائيليّ في المناطق المحتلّة عام 1967.
لقد تقبّلت المحكمة العليا في “إسرائيل” إقامة المستوطنات، على الرغم من اعتبارها لها مرحلة انتقاليّة فقط، حتّى يتمّ التوصّل إلى حلّ سياسيّ للصراع. وفي الوقت نفسه، رفضت المحكمة أيّ عمليّة استيطان قد تتمّ على أراضٍ خاصّة.
في المقابل، حافظ اليمين على موقفه بضرورة خلق حقائق على الوجود الجسديّ والسياسيّ على طول وعرض الأراضي المحتلّة في الضفّة الغربيّة (يهودا والسامرة)، وعلى حدّ قول القائلين: الموقف من عامونا (بؤرة استيطانيّة أقيمت شمال محافظة رام الله والبيرة وسط الضفة الغربية) كالموقف من الشيخ مؤنس.
لم تكن لدى الحكومات الإسرائيليّة أيّ سياسات استيطان واضحة ومتّفق عليها لتنفيذها في القدس، وما حدث في المنطقة كان عبارة عن خلق حقائق من الأسفل. حيث كان هناك من اليهود من طلب التعامل مع حكومة “إسرائيل” كما تعاملت الجالية اليهوديّة مع حكومة الانتداب البريطانيّ في فلسطين، من خلال خلق حقائق بدون الانتظار إلى انتهاء عمليّة اتّخاذ القرارات والموافقات.
وافقت الحكومة في البداية على إقامة مستوطنات “ناحال” فقط في منطقة غور الأردن لا غير (الوضع الرسميّ لهذه المستوطنات هو الفشل لوحدة عسكريّة)، كخطّة استراتيجيّة تهدف لتقليص عرض الغور في حال تمّت إعادته لاحقًا إلى الأردن. مع ذلك، وُجدت مستوطنتان بارزتان أُقيمتا بشكل استثنائي، هما: غوش عتصيون (تقع في جبل الخليل إلى الجنوب مباشرة من القدس وبيت لحم في الضفّة الغربيّة)، وهي مجموعة قرى يهوديّة أقيمت استجابةً للمستوطنين الذين طردوا من قراهم عام 1948، والمستوطنة اليهوديّة في كريات أربع والخليل، والتي يعود تاريخها إلى مبادرة المستوطنين، الذين وضعوا الحكومة أمام الأمر الواقع من خلال حقيقة موجودة.
حدثت نقطة التحوّل في موقف الحكومة في نوفمبر 1975، عندما تموضع مئات الشباب برفقة عدد من أعضاء الكنيست من اليمين في محطة القطار في قرية سبسطية في جبال نابلس (السامرة). لم تصمد حكومة رابين أمام الضغوطات الملقاة عليها، واستجابت لهم وتوصّلت معهم إلى تسوية، بموجبها؛ سيتمّ إجلاء المستوطنين من المنطقة، إلّا أنّ مجموعة “آلون موريه” – (مستوطنة إسرائيليّة أقيمت شرق مدينة نابلس) ستنقل إلى مرفق للجيش في قرية كفر قدوم، حتّى يتمّ تحديد مصيرها. بعد حوالي عام ونصف، هُزمت حكومة رابين في الانتخابات، وتولّى مناحيم بيجن منصب رئيس الحكومة.
من بين تبعات فوز بيجن بالانتخابات، كان التغيير في سياسات الاستيطان في الضفّة الغربيّة (يهودا والسامرة)، إذ تحوّل الاستيطان في جبال نابلس (السامرة) إلى حجر زاوية في سياسة الحكومة الجديدة. أمّا القيد الوحيد الذي واجهته الحكومة في تلك الفترة كان قانونيًّا، حيث بتّت المحكمة العليا في مسألة “آلون موريه” وحكمت أن لا حاجة أمنيّة للاستيطان في تلك المنطقة، كما ومنعت الاستيطان في أرض فلسطينيّة خاصّة.
بعدما استقال “موشيه ديّان” من منصب وزير الأمن عام 1974، تلاه في المنصب شمعون بيريز وزيرًا للأمن في حكومة رابين، إلا أن محاولات بيريز للاستمرار في سياسات ديّان باءت بالفشل. إذ لم يتمكّن من تحويل الاشتراك في عمليّة إدارة الأراضي المحتلّة عام 1967 إلى نشاط أساسيّ من نشاطاته، خاصّة أنّه استلم منصبه يوم واحد بعد حرب أكتوبر، الأمر الذي تطلّب منه التركيز على ترميم الجيش الإسرائيليّ.
نتيجة للاضطرابات، تمّ تعيين عيزر وايزمان وزيرًا للأمن بعد ثلاث سنوات، والذي بدوره حاول أن يسير بنفس الطريق التي سار بها من سبقه، ولكنّ السادات قام بزيارة “إسرائيل” بعد وقت قصير من تولّيه هذا المنصب، ودخلت “إسرائيل” في عملية مفاوضات مُرهقة حول اتّفاقية السلام مع مصر، ممّا دفع بقضيّة المناطق المحتلّة عام 1967 خارج أجندة وايزمان.
كان رئيس الحكومة مناحيم بيجن هو من أدّى إلى التحوّل الدراماتيكيّ في قضيّة المناطق المحتلّة عام 1967، وذلك بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر في مؤتمر “كامب ديفيد” في سبتمبر 1978. وقد احتوت اتفاقيّة السلام على قسمين: الأوّل هو القسم الثنائيّ، الذي تضمّن السلام الإسرائيليّ – المصريّ الكامل مقابل الانسحاب الكامل من شبه الجزيرة سيناء، بالإضافة إلى الالتزام الإسرائيليّ بحلّ معضلات الصراع مع سوريا وفلسطين. في سياق هذا الاتفاق، تعهّدت “إسرائيل” بمنح فلسطين حكم ذاتيّ مستقلّ لمدّة خمس سنوات يتمّ من خلالها تحديد مستقبل الأراضي الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، إلا أنها استطاعت التهرّب وتجنّب الامتثال لهذا الجزء من الاتفاقيّة، بل وسمحت بالقيام بعمليّات استيطانيّة بكثرة في المناطق المحتلّة عام 1967.
في عام 1984، وعندما تولّى شمعون بيريز منصب الرئاسة، بدأ بالتفتيش عن حلّ سياسيّ للصراع مع الفلسطينيّين. المحاولة الأولى لبيريز كانت من خلال إجراء محادثات مع ممثّلي منظمة التحرير الفلسطينيّة الموجودة في تونس، إلّا أنّ الاجتماعات السرّيّة معهم توقّفت نتيجة لنقل رئاسة الحكومة إلى إسحاق شامير وفقًا لاتّفاق التناوب بين حزب المعراخ وحزب الليكود.
حاول بيريز في عام 1987 أن يشجّع عمليّة سياسيّة أخرى، عندما كان وزيرًا للخارجيّة في حكومة إسحاق شامير. وتوصّل مع ملك الأردن حسين في اجتماع سرّي عقد بينهما في مدينة لندن على إقامة مؤتمر دوليّ من أجل الإقرار بإعادة الضفّة الغربيّة إلى سيطرة الأردن، لكنّ هذه المبادرة أُحبطت على يد رئيس الحكومة شامير.
بعد ذلك بفترة قصيرة، وتحديدًا في ديسمبر 1987، اندلعت الانتفاضة الأولى، واستعاد حزب العمل السلطة بعدها بخمس سنوات بقيادة إسحاق رابين هذه المرّة. قرّر رئيس الحكومة البحث عن حلّ للصراع مع الفلسطينيّين ومنح الحرّيّة لشمعون بيريز للقيام بما يريد، وبدور وزير الخارجيّة، وذلك للاستمرار قدمًا بالمحادثات التي بادر إليها كلّ من يائير هرشفلد ورون فونداك مع ممثّلي منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
أدّت هذه المحادثات إلى اتّفاقيّة أوسلو1 (إعلان المبادئ) التي اعترفت “إسرائيل” فيها بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة كممثّل قانونيّ وشرعيّ للشعب الفلسطينيّ، في حين اعترفت منظّمة التحرير الفلسطينيّة بحق “إسرائيل” في وجودها وبقائها بسلام. كما ومكّنت الاتّفاقيّة منظّمة التحرير الفلسطينيّة من دخول الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967 والاستقرار بهم.
بعد عامين من ذلك، تمّ التوقيع على اتّفاقيّة أوسلو الثانية، والتي قسّمت الأراضي الفلسطينيّة إلى ثلاث مناطق:
وقد أدّى مقتل رئيس الحكومة رابين وصعود الليكود إلى الحكم عام 1996 إلى توقّف عمليّة أوسلو لعدّة سنوات.
كانت هناك محاولة لتجديد العمليّة السياسيّة مع الفلسطينيّين عام 1999 مع صعود ايهود باراك إلى الحكم في مؤتمر كامب ديفيد 2000، الذي عقد برعاية رئيس الولايات المتّحدة بيل كلينتون. حاول باراك تخطيّ المراحل الوسطيّة والتوصّل إلى اتّفاق نهائيّ مباشرةً، إلّا أنّه لم يستطع الوصول إلى حلّ يرضي الطرفين مع ياسر عرفات، رئيس منظّمة التحرير آنذاك.
اندلعت الانتفاضة الثانية في فترة قريبة لذلك في نهاية سبتمبر 2000، حيث قام الرئيس كلينتون بعد بضعة أسابيع من ذلك، بالإعلان عن مخطط لحلّ النزاع، وكانت أهمّ بنوده: التنازل الفلسطينيّ عن حقّ العودة، تنازل “إسرائيل” عن سلطتها وسيادتها على المسجد الأقصى، وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على 95% من الأراضي المحتلّة، باستثناء الكتل الاستيطانيّة الكبيرة. لم يقبل كلا الطرفين بهذا المخطط، لكنّهما اعتبراه أساسًا للمناقشات المستقبليّة بينهم.
هذا هو الوضع السائد حتّى اليوم، باستثناء حادثين اثنين، هما: قرار رئيس الحكومة، أرئيل شارون عام 2005 بإخلاء إسرائيليّ كامل من قطاع غزّة، ومؤتمر أنابوليس عام 2007، والذي حاول فيه الطرفان تنشيط عمليّة السلام من جديد.
المصادر:
– “معهد أبحاث الأمن القومي”: https://bit.ly/3fH79kk
طالما قمعت قوات الاحتلال الإسرائيلي المصلين في المسجد الأقصى بمختلف الطرق، وربما كان أبرزها مؤخرًا…
يستعدّ المسيحيون للاحتفال بعيد الفصح وسبت النور بكنيسة القيامة في القدس، فيما ينشغل الاحتلال، كعادته؛…
قبيل النكبة، سكن مدينة حيفا نحو 61 ألف فلسطيني، وبقي فيها أقل من 20 ألف…
باتت مسيرة الأعلام أو رقص الأعلام في البلدة القديمة في القدس طقسًا مكررًا للاستفزاز والتصعيد…
يمتدّ تاريخ الصراع حول الأذان حتّى ما قبل النكبة؛ في العقدين الثاني والثالث من القرن…
لا يقتصر القمع الإسرائيلي للفلسطينيين على الأحداث الميدانية المشتعلة في القدس والمسجد الأقصى، بل إنه…