يبدو أن “الإنجازات والاختراقات” التي تحققها “إسرائيل” في منطقة الخليج من خلال التطبيع الصريح لبعض الدول، وقبوله ثم تنفيذه لاحقًا من البعض الأخر لم يكن وليد اللحظة، إنما هو نتيجة أهداف وسياسة إسرائيلية قديمة مدعومة من آلة نتنياهو الإعلامية والدعائية التي تأسست قبل 12 عامًا بشكل افتراضي، قُبيل الانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي.
كيف تأسست هذه الآلة الدعائية؟ وما مدى تأثيرها؟
هذه المادة تكشف مدى تأثير الدعاية الإسرائيلية الموجهة ضد المنطقة العربية في تحقيق أهداف “إسرائيل”، سواء على صعيد الأنظمة أو الشعوب.
كيف غزت قوات نتنياهو الإلكترونية الخليج؟
استعانت “إسرائيل” بشبكة من الحسابات في وسائل التواصل الاجتماعي لتحسين صورتها في عيون سكان دول الخليج، ويبدو من اتفاقية تطبيع العلاقات مع دولة الإمارات أنّ هذه الجهود قد أثمرت فعلًا.
وقّعت “إسرائيل” ودولة الإمارات في تاريخ 13 أغسطس/آب على “اتفاقٍ تاريخي” لتطبيع العلاقات بين الدولتين، وبحسب الاتفاق، الذي كان برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، سوف تؤجل “إسرائيل” مخطط ضم أراضٍ من الضفة الغربية، بينما اعتبر ترامب في تغريدة له أنّ الاتفاق “خطوة ضخمة” و”اتفاق سلام تاريخي بين صديقتين كبيرتين لنا”.
“اتفاقية السلام” هي تتويج لسنوات من تقارب العلاقات بين “إسرائيل” ودول الخليج وتوطيد التغيير في الرأي العربي العام. صحيح أنّ الاتفاق قد هوجم لأنّه تجاهل تطلّعات الفلسطينيين بالاعتراف الذاتي، لكنّه قوبل بمباركة وحماس شديدين من قبل مؤثرين خليجيين كثر في وسائل التواصل.
وفي الوقت الذي توازن فيه قوّةُ دول الخليج الصاعدة تأثير إيران المتوسّع في العقد الأخير، استعانت “إسرائيل” بشبكة من حسابات متكلمي العربية في وسائل التواصل كي تنشر أجندة داعمة لـ “إسرائيل” وتشتري بها قلوب وآراء سكّان الخليج ولتحيّد خطر الجمهورية الإسلامية. ويبدو أنّ هذه الجهود قد أثمرت فعلًا اليوم واتفاقية السلام ماثلة في الأفق،.
تاريخيًا، لعب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي دورًا هامًا في علاقة “إسرائيل” مع الخليج، وبدأت العلاقات في سنوات التسعين بعد اتفاقية أوسلو، ثمّ توقّفت في بداية سنوات الألفين خلال الانتفاضة الثانية (نتيجة لمظاهرات كبيرة في بعض دول الخليج)، وأُحيَت العلاقات من جديد عام 2002 مع مبادرة السلام العربية واستمرت بشكلٍ سريّ طوال العقدين الأخيرين.
في الوقت الحالي، نجحت حكومة نتنياهو بتقريب العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي (GCC)، بالأخص دولة الإمارات، والسعودية، والبحرين، وبشكل أقل عُمان وقطر.
منذ نهاية العقد الأول من الألفية بدأت “إسرائيل” باستخدام وسائل التواصل من أجل نشر “الدعاية” الإسرائيلية. فمثلًا، تعرض وزارة الخارجية الإسرائيلية مقاطع إعلامية على يوتيوب منذ عام 2008، وبعد سنتين، في عام 2010، أطلقت الوزارة حسابات للسفارتين الأردنية والمصرية على منصة تويتر “من أجل تقوية العلاقات الدبلوماسية ومن أجل النمو الاقتصادي والودّي” بين “إسرائيل” والدّولتين.
(المترجم: في العبرية “هسبراه”، بمعنى إعلام أو توضيح، وهو كذلك اسم مكاتب حكومية تابعة لرئيس الحكومة تعنى بنشر وتلميع الصورة الإسرائيلية إعلاميا).
تركّز هذه الحسابات على طرح محتوى اجتماعي، ثقافي، تقني أو اقتصادي وتتجنب المسائل السياسية الحساسة كمسألة حقوق الفلسطينيين التي من المعروف أنّها تثير الجماهير الأردنية والمصرية.
واستخدمت جهات أمنية أخرى طرقًا ووسائل شبيهة في وسائل التواصل الاجتماعي حتى تؤثر على الموقف الفلسطيني السلبي من الاحتلال العسكري وتحثّه على الوثوق بالتعاون والعمل المشترك.
كما استأجر نتنياهو في السنوات التي تلت عودته لرئاسة الحكومة فريقًا من الجنود السابقين الذي عملوا في مكتب متحدث الجيش، ومن ضمنهم ابنه البكر يائير، من أجل قيادة جهود الحكومة في تحقيق حضور قوي في وسائل التواصل.
وكانت الحكومة مستعدة للاشتباك مع عالم التدوين العربي بدعم من وحدة نخبة من المجندين المتمرسين إلكترونيًا، ثم لخلق صورة إيجابية أكثر عن “إسرائيل”.
بعد “الربيع العربي” أُنشت حسابات إضافية أخرى بالعربية كحساب “إسرائيل بالعربية” على تويتر، وحساب “إسرائيل” تتكلم العربية” على فيسبوك الذين لديهما أكثر من مليوني ونصف متابع. إضافة لذلك بدأ أشخاص تابعون للسلطة كأفيخاي أدرعي من مكتب المتحدث باسم جيش الاحتلال، وأوفير غندلمان، متحدث للإعلام العربي من مكتب رئيس الحكومة، وحتى نتنياهو بنفسه، بدأوا النشر باللغة العربية بين السنوات 2011-2012.
تعمل هذه الحسابات معًا، وتشارك بعضها منشورات بعض، إذ يتبادل القائمون عليها المعلومات ويحافظون على تواصل جيد مع أشخاص من كل المنطقة، كما تثير هذه الحسابات نقاشات، وتطرح استفتاءات وتعرض مقاطعًا ترتبط مباشرة بالناس وأهل المنطقة مع التطرق للثقافتين العربية والإسلامية، وتُقدّم هذه الحسابات “إسرائيل” كأمّة “متقدّمة ومتسامحة ومبادرة وساعية للسلام”.
وخلال السنوات الأخيرة، ركّزت هذه الحسابات على التقدم التكنولوجي في المجالات التي تهم العالم العربي كالزراعة والطب، إضافة لذلك اعتنت بحقوق المرأة وبالتمثيل الجندري في السلطة والجيش في “إسرائيل”، مع خلق صورة تُنحّي عنف الاحتلال في الضفة الغربية وغزة إلى الهامش.
“مجرد فضول”
هذه الصورة التي تبدو في الظاهر حسنة للتقدم والإنجازات الثقافية والتكنولوجية والاجتماعية قد توهم المستخدمين العرب لوسائل التواصل، إذ أنّ أكثرهم لا يملك تصوّرًا عميقًا لطبيعة المجتمع الإسرائيلي.
“الأمر مجرد فضول أحيانا”، يقول كريم عبد العزيز، مستشار اقتصادي وُلد في لبنان ونشأ في الإمارات، ويتابع حساب نتنياهو بالعربية على تويتر منذ سنوات.
وأضاف عبد العزيز “طوال حياتي سمعت تفسيرات غامضة لما فعلته “إسرائيل” بالعرب، وكيف أنّ “إسرائيل” هي الشيطان، ولماذا علينا ألّا نتحدث مع إسرائيليين. كل الموضوع كان محظورًا، وفجأة من الصعب أن تقاوم إمكانية إلقاء نظرة داخل هذا الصندوق الأسود.”
من الوسائل المتبعة لجذب المتصفح العربي أن تُعرض الثقافة العربية داخل سياقات إسرائيلية مختلفة في محاولة لتنمية التقارب وإظهار الإعجاب الذي يبديه الإسرائيليون للموسيقى واللغة والفنون العربية.
وتعمل هذه الحسابات كذلك على التلاعب بالرواية اليهودية الشرقية، إذ يمحو هذا التلاعب تاريخ الاضطهاد المؤسساتي الذي تعرض له اليهود الشرقيون بسبب ثقافتهم وهُويتهم العربية (هم اليهود الذين هاجروا إلى “إسرائيل” من الشرق الأوسط ومن الدول الإسلامية).
من جهة أخرى تكتفي هذه الحسابات بعرض التجربة المشتركة ومواقف الأخوّة لهؤلاء اليهود الشرقيين مع العرب في الشرق الأوسط.
أمّا منصور بناني، الذي يتابع عدة حسابات إسرائيلية على تويتر، وهو من الرباط وطالب في جامعة بان ستيت بأمريكا، يقول: “يظنون أنني سأعجب أكثر بـ “إسرائيل” إذا رأيت أن لكثير من الإسرائيليين توجد خلفية عربية أو أنهم هاجروا من بلاد إسلامية”.
وأوضح “الحقيقة أن هذا قد يغذي ميولًا معادية للسامية تجاه المجتمعات اليهودية التي بقيت في الدول العربية، لدينا عدة مجتمعات كهذه في المغرب حيث كثيرًا ما يحاول أهلها إثبات انفصالهم عن الصهيونية أو انعدام صلتهم بها.”
ويقول بناني إنّ مواطني المغرب يرون أنّ “المشاعر الصهيونية سببٌ في التمييز ضد اليهود في الدول الإسلامية بعد النكسة، وعندما تُظهر هذه الحسابات مشاعر هؤلاء اليهود فإنها تسبب نفور الجمهور العربي”.
ويضيف “يقولون إنّه لا فرق بين اليهودية و”إسرائيل”، حتّى اليهود من الشرق الأوسط يدعمون “إسرائيل” دائمًا. هذا فقط يسوّغ الكراهية ضد اليهود، الكراهية بشكل أساسي من التعامل الإسرائيلي العنيف مع الفلسطينيين.”
وكلما ازدادت سيطرة “إسرائيل” على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة (المترجم: تقصد الكاتبة الضفة وغزة) كلما قلّ اهتمام الحكّام العرب بقضية الاحتلال بسبب مصالحهم، تبّنت بعض هذه الحسابات رسائل سياسية واضحة أكثر.
هذا الخطاب يزداد عدوانية مع الوقت، فهو يهاجم الطريقة التي يدير بها الفلسطينيون الصراع، ويدّعي أنّهم يرفضون دائمًا مبادرات السلام التي تقترحها “إسرائيل”، ويعرض المقاومة كأنها إرهاب غير شرعي ويبالغ في ربط الفلسطينيين بإيران وقطر.
هذه الإضافة الجديدة للأدوات الإعلامية لهذه الحسابات، بالخصوص فيما يتعلق بإيران بأنها أمّ الشر في المنطقة معناها أنّ “إسرائيل” توجّه اهتمامها ورسائلها إلى الخليج.
أنشأت “إسرائيل” حساب “إسرائيل في الخليج” عام 2013، وقد تأثرت البيئة الاجتماعية والثقافية في الخليج جدًا من قدرة وسائل التواصل الاجتماعي بالكشف عن المجتمعات، والخطابات والموضة حول العالم، وبسبب ذلك أيضًا نمى هذا الحساب بسرعة.
يعتبر مسؤولون في “إسرائيل” حساب “إسرائيل في الخليج” كإحدى الحملات الأكثر نجاحًا لوزارة الخارجية الإسرائيلية في وسائل التواصل، وفي عام 2018 اعتبر الحساب “سفارةً افتراضية”.
ويقول منشئ الحساب، يوناتان غونن: “نرى أن المزيد من متابعي الحساب يثق بالمحتوى المطروح وأنّهم غيرّوا أفكارهم وتوجهاتهم حول “إسرائيل”.
“التفريق بين العربي “الجيد” والعربي “السيئ””
سُجل في السنوات الأخيرة في الخليج ارتفاع شديد للتعامل مع الحسابات “الإسرائيلية” الرسمية. قنوات الحكومة في يوتوب وتويتر نشرت مقاطع لمواطنين خليجيين يمدحون “إسرائيل”، وأخبارًا عن زيارات لـ “إسرائيل” من مواطنين خليجيين، وتصريحات رسمية لدول الخليج حول تطبيع العلاقات (كان الإعلام التقليدي في الخليج يتغاضى عن هذه التصريحات)، بالإضافة إلى رسائل من مواطنين “إسرائيليين” لدول الخليج.
الحوار السياسي الذي تديره هذه الحسابات يتعلق عادة بالقلق والمصالح المشتركين، بالتحديد بالأمور المتعلقة بسياسات دول الخليج الخارجية، كالصراع حول النووي الإيراني، ووقف التوسّع للتطرف الإسلامي (الذي عادة ما يُقارن بحركات المقاومة الفلسطينية). وتُظهر مدى قرب نتنياهو من سلطة ترامب ولتعاونه معه، وهو أمر لافت لانتباه كثيرين في الخليج ممن يدعمون سياسته العدوانية تجاه إيران.
رغم التصور بأن الخطر الإيراني كان العامل والداعي المشترك لطموحات “إسرائيل” الدبلوماسية في الخليج، إلّا أنّه لم يكن العامل الوحيد. قرّب “الربيع العربي” عام 2011 بين “إسرائيل” ودول الخليج، حيث أثبتت الثورات قوّة المشاعر الشعبية وقدرتها على الإطاحة بأنظمة سلطوية.
كان خطر مظاهرات الربيع على حكومة “إسرائيل” كخطرها على دول الخليج، حيث كانت “إسرائيل” معنيّة بالمحافظة على الوضع القائم الذي تُحيّد فيه الأخطار الإقليمية، وكانت دول الخليج قد انتبهت للتهديد المباشر أو غير المباشر الذي تشكّله التحرّكات السياسية الواسعة عليها.
تستغل هذه الحسابات “الإسرائيلية” القلق المشترك من تطور الحركات الإسلامية في المظاهرات الشعبية لوصف الطموحات القومية الفلسطينية بالخطورة، والفساد، والراديكالية. في نفس السياق، تهاجم هذه الحسابات الأيديولوجية الإسلامية “المتطرفة” بكثرة، وتمد خطًا للتفريق بين “العربي الجيد” و”العربي السيّئ”. حيث يقصد المواطنون الطيّعون والمنتجون بالمصطلح الأول، ويقصد بالثاني داعمو الحركات الإسلامية أو التنظيمات “الإرهابية” (ويُدخلون في ذلك الفصائل الفلسطينية المسلحة).
على سبيل المثال، سأل أفيخاي أدرعي متابعيه في إحدى تغريداته: كيف تريدون أن يتذكّركم النّاس؟ كناجحين محترمين، كاللاعب المصري محمد صلاح أو كصحفي الرياضة مصطفى الأغا، أو كـ “الإرهابي الجبان” أحمد جرار، الذي قُتل بأيدي جنود إسرائيليين بعد مهاجمته مستوطنًا إسرائيليًا؟
تُردَد هذه التصريحات ذات الخطاب الشائع في الإمارات أو السعودية بخصوص القلق من الميول الإسلامية الراديكالية.
بالإضافة إلى ذلك، تنتقد هذه الحسابات المقاومةَ الفلسطينية وتُشيطن جهودها ضد الاحتلال. هكذا تضرب على وتر الخوف عند الأنظمة السلطوية، الخوف من الحركات الشعبية التي تتحدّى الوضع القائم أو التي تدعم تيارات إيديولوجية راديكالية.
كما تستخدم هذه الحسابات هاشتاج #حماس_نكبتكم و #مش_عودة_فوضى، بهدف إظهار المظاهرات والاحتجاجات على أنها عنف تقوده حماس أو أنها مدعومة من إيران. (1)
المصادر:
(1) “ميكوميت”: https://bit.ly/33kP32C
طالما قمعت قوات الاحتلال الإسرائيلي المصلين في المسجد الأقصى بمختلف الطرق، وربما كان أبرزها مؤخرًا…
يستعدّ المسيحيون للاحتفال بعيد الفصح وسبت النور بكنيسة القيامة في القدس، فيما ينشغل الاحتلال، كعادته؛…
قبيل النكبة، سكن مدينة حيفا نحو 61 ألف فلسطيني، وبقي فيها أقل من 20 ألف…
باتت مسيرة الأعلام أو رقص الأعلام في البلدة القديمة في القدس طقسًا مكررًا للاستفزاز والتصعيد…
يمتدّ تاريخ الصراع حول الأذان حتّى ما قبل النكبة؛ في العقدين الثاني والثالث من القرن…
لا يقتصر القمع الإسرائيلي للفلسطينيين على الأحداث الميدانية المشتعلة في القدس والمسجد الأقصى، بل إنه…