زخر الأرشيف الإسرائيلي بالكثير من الملفات والتسجيلات التي وثقت أحداث النكبة عام 1948، ومأساة تهجير السكان الفلسطينيين من أراضيهم، إلا أن الباحث في طيات هذا الأرشيف قد يخرج باستنتاجات مغايرة للواقع عملت الحكومات الإسرائيلية على اختلاقها وتكريسها لتحقيق ذلك بجهد العديد من الباحثين.
كما أن الوثائق المتاحة للاطلاع من محفوظات الأرشيف لا تروي كل الحقيقة، فالكثير غيرها ما يزال مخفيًا رغم انتهاء فترة صلاحية قانون حظر النشر.
هذه المادة المترجمة عن صحيفة “هآرتس”، تتحدث عن الرواية الإسرائيلية التي تم اختلاقها عن أحداث النكبة، وكيفية توثيق تلك الافتراءات عن طريق الأرشيف الإسرائيلي بقرار رئاسي من بن غوريون.
يشرح البروفيسور إيال ، الذي درس العلاقة بين الشرقيين الإسرائيلين والاستخبارات في مقابلة، أن البحث عن اللاجئين لا يمكن اعتباره أكاديميًا بأي شكل من الأشكال وأنه كان في إطار الهسبراه (لتجميل صورة إسرائيل).
وأضاف إيال أن “التفسير، حتى عندما يتعلق الأمر بالباحثين الأكاديميين ويستخدم المستندات وفقًا لطرق بحث المؤرخين، لا يزال مختلفًا تمامًا عن البحث الأكاديمي أو الأشكال الأخرى من البحث الموضوعي لمجرد أن الغرض مما تريد الحالات إثباته، لذا بطبيعة الحال إذا كانت هناك أشياء أخرى في الملفات، فإنها لا تذهب إلى البحث لأن هذا ليس ما أرادوا العثور عليه”.
المحاولة الثانية
كان بن غوريون، لسبب غير واضح، غير راضٍ عن البحث الذي كتبه غاباي، وعلى الفور بعد انتهاء عمل غاباي، كلّف بن غوريون مستشار الشؤون العربية لدى مكتبه، أوري لوبراني، بإعداد دراسة جديدة.
بعد ذلك كلّف لوبراني موشيه ماعوز بالمهمة، وهو الذي كان حينها طالبًا جامعيًا يدرس دراسات شرق الأوسط في الجامعة العبرية، ويعمل في مكتب لوبراني، ثم أصبح حاليًا بروفيسور تاريخ متخصص في الشأن السوري.
يشرح ماعوز في مكالمة هاتفية: “ذهبت إلى دراسة الاستشراق كجزء من مُنطلق “اعرف عدوك”، وفقط عند ذهابي لدراسة الدكتوراه في جامعة أكسفورد انكشفت على الجانب العربي”.
التقى ماعوز بعدد من الباحثين وشكّل فريقًا معهم تحت مسؤوليته، وبدأ هذا الفريق في جمع عشرات الوثائق في “إسرائيل” وحول العالم، حتى أنه أجرى مقابلات مع ضباط إسرائيليين وبريطانيين، ومع فلسطينيين بقوا في “إسرائيل”.
تم فهرسة الوثائق والمستندات، التي وصل عددها إلى 150 صفحة، بعناية فائقة وتم تحضيرها كملف أدلّة، وفي هذا يقول ماوز: إن بحثه كان مشابهًا جدًا لبحث موريس، كما أشار إلى وضوح حالات ترحيل الفلسطينيين، لا سيما في اللد والرملة.
وأضاف: “لا أعتقد أنني كنت متحيزًا، إلا أنني ربما كنت قد أكدت على قضية الهروب، وعلى الأرجح كنت متأثرًا بالفكر الوطني الذي نشأت عليه بالمدرسة والجيش”.
مع ذلك، فإن الاطلاع على الوثائق المحفوظة في ملف أرشيف الدولة يعطي صورة واضحة للغاية: وفقًا لسجل ماعوز، فإن جميع الوثائق دون استثناء، تثبت أن العرب فروا طوعًا بتعليمات قادتهم.
في كانون الأول/ديسمبر 1961، وقبل بدء البحث، وجّه ماعوز رسالة إلى ديفيد كيمتشي، الذي كان آنذاك كبيرًا في الموساد (لسنوات عديدة كان المدير العام لوزارة الخارجية) وطلب منه المساعدة في جمع الوثائق.
وأوضح ماعوز في رسالته: “نسعى إلى إثبات أن هروب الفلسطينيين كان بسبب تشجيع القادة العرب المحليين والحكومات العربية وبمساعدة البريطانيين، وبسبب ضغوط من الجيوش العربية (العراقية وجيش الإنقاذ) على السكان العرب المحليين”.
وتضمن التقرير النهائي الذي قدمه ماعوز إلى لوبراني، في سبتمبر/أيلول 1962 أنه بعد استكمال جمع الوثائق وإنهاء المهمة التي كُلّف بها، أوضح ماوز أنه تم تكليفه بمهمة أخرى، من أجل إثبات ما طلب منه، وهي بحسب ماعوز: “تكليفه بجمع المواد التي تثبت هروب العرب عام 1948، وتشجيع القادة والمؤسسات العربية، داخل الدولة وخارجها، للعرب الفلسطينيين على الفرار”.
كما تضمنت المهمة إثبات أن الجيوش العربية و”المتطوعين” ساعدوا على الفرار من خلال إخلاء القرى ومعاملتهم القاسية للسكان المحليين، وإثبات مساعدة الجيش البريطاني في أماكن عدة للعرب على الفرار، وليس هذا فحسب، بل إن المهمة تضمنت الطلب بإثبات أن المؤسسات والمنظمات اليهودية بذلت جهودًا لمنع هروب الفلسطينيين.
مباشرة بعد تقديم التقرير النهائي، ترك ماعوز عمله في مكتب ليبراني وذهب لدراسة الدكتوراه في جامعة أكسفورد.
بعد ذلك، جاء طالب دكتوراه آخر اسمه اوري شتندل واستمر في البحث بموضوع الهجرة الفلسطينية، ثم بعد فترة وجيزة من توليه منصبه في أوائل عام 1963، التقى مع بن غوريون الذي شبّهها بـ “الكتاب الأبيض”، في إشارة إلى لجان التحقيق البريطانية التي تم تشكيلها للنظر في الأحداث الرئيسية التي حدثت في الأراضي التي تسيطر عليها ومن ضمنها فلسطين.
وأوضح شتندل: “أتذكر قول بن غوريون حول الحاجة إلى هذا الكتاب الأبيض، لأن هناك العديد من الأقوال التي تفيد أن العرب طردوا ولم يهربوا، وبحسب ما أذكر أنهم هربوا بالفعل، لكن علينا أن نكتب الحقيقة، اكتبوا الحقيقة”.
وقال إنه استمر في جمع المواد لفترة قصيرة، وكان مقتنعًا بأن البحث الذي كتبه هو وماعوز كان دراسة علمية تثبت أن القادة العرب دعوا الفلسطينيين إلى المغادرة، إلا أنه لم يتعمد إثبات وجود الطرد للفلسطينيين.
وعندما أنهى شتندل بحثه، التقى مع بن غوريون لاستعراض النتائج: “أخبرته أن لا يمكن أن يقال إن هنالك تناسق: لم يكن هناك أي نشاط ترحيل مُنظّم من جهة، ومن ناحية أخرى لا يمكننا القول أننا حاولنا في جميع الأنحاء منع العرب من الفرار”.
وأضاف “أخبرته أنه ليس لدي أدنى شك، على سبيل المثال، في وجود التهجير في اللد والرملة”، لذلك سألني بشكل مفاجئ: هل أنت متأكد؟ فقلت له: لم أكن هناك، لا يمكنني التحديد، إلا أنه بحسب ما جمعناه وبحثناه فلقد كان هناك تهجير”.
ومع ذلك، فإن الوثائق التي حفظت في الأرشيف لا تحتوي على أي من الوثائق التي تدل على وجود تهجير، كما أن شتنديل لم يستبعد أنهم فعلاً قاموا بتخفيف وطأتها، إلا أنه استبعد إمكانية ذهابهم إلى إخفاء الحقائق عمدًا.
إضافة إلى ذلك، قال شتندل: “من الواضح أننا كنا نعمل في مكتب رئيس الوزراء وأردنا مساعدة دولة “إسرائيل” في قتالها، لذلك من الطبيعي أن ننظر حقًا لإثبات أننا لم يتم ترحيلنا، قد يكون هذا هو الدافع، لكنني لا أتذكر قول بن غوريون، أو قول لوبراني: “اسمع ، افعل هذا وذاك”.
وبقي شتندل مقتنعًا بأن بن غوريون “لا يعلم بالفعل كيف وُجدت أو صارت قضية اللاجئين عام 1948، لأنه كان مشغولًا وقتها بالتحركات الاستراتيجية ولم يملك الوقت للاهتمام أو التعامل مع هذه القضية”، وبحسب رأيه، وقال إن بن غوريون طلب من العدد من الجهات المختلفة بحث قضية اللاجئين لكي تتوفر له الصورة الكاملة”.
وأضاف: “لو أن بن غوريون أراد أن يقرر سياسيات تهجير لقرّرها بالفعل،(…) لهذا أعتقد أن غريون لم يُدرك أنه وافق على سياسة التهجير، إنما اعتقد أن قراره جاء بسبب ضرورة أمنيّة”، لهذا اعتقد شتندل أن بن غوريون “لم يوافق على سياسية التهجير، ولهذا أراد أن يعرف ما حدث بالفعل”.
الدليل على ذلك هو أنه طلب من العديد من الهيئات المختلفة إجراء بحث حول الموضوع حتى تكون لديه صورة كاملة، “إذا كان بن غوريون قد قرر سياسة ما، لكانت هناك سياسة، ثم دعنا نقول فقط ، أعتقد أن الأقلية العربية في إسرائيل اليوم كانت محدودة أكثر بكثير … لذا أعتقد أن بن غوريون لم يكن يعرف بالضبط. قد يكون في حالة أو أخرى وافق على الترحيل ، عندما قيل لهم أن ذلك مهم للأمن ، لكن استنتاجي هو أن بن غوريون لم يوافق على سياسة الترحيل ، ثم أراد أن يعرف ما حدث بالضبط “.
من المهم الإشارة إلى أن معظم المؤرخين الذين بحثوا في القضية قدموا أدلة على أن بن غوريون كان يعرف في الوقت الحقيقي عن حالات الترحيل الفلسطيني بل وأكدها، وفي غياب معلومات موثوقة عن تلك الفترة، من الصعب اليوم تحديد ما إذا كان بن غوريون قد أقنع نفسه بأن معظم العرب الفلسطينيين غادروا طواعية أو أنه لم يؤمن بذلك، لكنه أراد أن يصدقه التاريخ بذلك.
في عام 1961 عُقد اجتماع وزاري لنقاش قضية اللاجئين، اقترح فيه رئيس الوكالة اليهودية، شاريت، خطة جديدة لتصفية قضية اللاجئين وهي: “تسريب المواد التي سيتم جمعها في أبحاث الصحافة الأجنبية، بحيث يُمكن نشرها على أنها تحقيقات “موضوعية” دون تحديد مصدر المادة”، موضحًا أنه “يجب نشر المواد بأهم وأكبر الصحف”.
“هذا يعني أنه يجب عليك تأليف خطة لكل “بلد، وتحديد من هو “الضحية “، مع التزوّد بالمعلومات الكافية والحجج المناسبة مع إعداد تقارير موسعة لتأكيد الرواية التي نطرحها، لا سيما أن هذا السؤال سكون الأهم خلال الفترة المقبلة”.
يبدو أن بن غوريون تبنى الفكرة، وفي مكتب مستشار الشؤون العربية في مكتب رئيس الوزراء، قام شتندل بالتوجيه والاتصال بأفياد يافي، الذي كان آنذاك رئيس قسم “الهسباره” بوزارة الخارجية، ووفقًا للاتصال بينهما في مايو/أيّار 1964 “اتفق الاثنان على إحالة المواد التي تم جمعها إلى صحفي أجنبي من إحدى المجلات المشهورة بحيث تنشر سلسلة مقالات حول من موضوع “الهروب”، إلا أنه وفقًا لشهادة شتندل، لم يتم تنفيذ الخطة.
التاريخ في ظلال وردية
على الرغم من أن أبحاث ماعوز وشتندل حول “الهروب العربي” ربما فقدت للأبد، فإن أرشيف الدولة لديه أدلة واضحة تظهر أن العلماء الذين تعاملوا مع القضية في الستينيات لم يرسموا صورة كاملة لدور “إسرائيل” في خلق مشكلة اللاجئين.
وتعكس قصة كتابة الدراسة والطريقة التي ينظر بها إليها أعضاؤها اليوم تطور موقف الإسرائيليين من النكبة الفلسطينية.
في الستينيات، لم يجرؤ أحد على الاعتراف علنًا بأن “إسرائيل” قامت بترحيل الفلسطينيين، إلا إنه في الوقت الحالي وفي حقبة ما بعد أوسلو و”المؤرخون الجدد”، لم تعد المسؤولية الإسرائيلية بمثابة الـ “تابو”.
في الوقت الحالي، وبعد إعادة قراءة الملف في أرشيف الدولة، الذي يحتوي على المُلخصات التي كتبها ماعوز بنفسه في الستينيات، قال: “أعتقد أنني في هذه المرحلة من حياتي كانت متمسكًا بالفكر الذي تمسك به أغلب يهود “إسرائيل”، وهو فكر المؤسسة الإسرائيلية، الذي يقول إن العرب هربوا لأن قادتهم هربوا قبلهم، أو لأنهم شجعوهم وطلبوا منهم الهروب، في الوقت الذي طالبت فيه مؤسسات يهودية العرب بالبقاء. كما وأنني لم أذكر في بحثي أن جزءًا كبيرًا من العرب هربوا بسبب الهلع والخوف من الحرب والمذابح، وأن الجيش أقدم في حالات أخرى على طرد بعضهم فقط، ومن الممكن أن هذه المعلومات لم تظهر مع باقي المواد أو أنها لم تقيّم بطريقة سليمة”.
ويشرح معاوز أنه غيّر رأيه وموقفه السياسي في فترة دراسته في أكسفورد، وبعد أن عاد من دراسة الدكتوراه، ورغم من استمراره بالعمل لصالح الحكم العسكري في الضفة، إلا أنه تعاطف أكثر مع الفلسطينيين أكثر من تعاطفه مع الحكومة الإسرائيلية، وبالنهاية أطيح بماعوز على يد قائد الأركان العسكرية رفائيل ايتان، بعد أن صرح في إحدى مقابلاته على القناة الاسرائيلية في بداية الثمانينات، أنه يتوجب على “إسرائيل” التفاوض مع قادة الضفة الغربية والذين ينتمون لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ولم يعد معظم المؤرخين حول العالم وفي “إسرائيل” يتناقشون حول أن جنود جيش “الدفاع” الإسرائيلي طردوا العديد من الفلسطينيين من منازلهم خلال 1948، ولم يسمحوا لهم بالعودة إلى قراهم بعد انتهاء القتال، لكن النقاش حاليًا يتركز حول إذا ما كانت عمليات الطرد ضمن خطة ممنهجة وافق عليها بن غوريون.
ويظهر ملف “جال” أن الجواب على سؤال “ما الذي حدث بالفعل؟” كان مرنًا جدًا منذ قيام دولة “إسرائيل”، وكان متعلقًا بهوية السائل وهوية المُجيب.
مع ذلك، من المشكوك فيه ما إذا كان غاباي وماعوز وشتندل وليبراني قد كذبوا عن علم، والمحتمل أكثر أنخ طُلب منهم خداع حتى أنفسهم لرسم صورة أكثر وردية عن عام 1948، وهي السنة التاسيسية التي غيرت تاريخ الشعب اليهودي من جهة، وتاريخ الشرق الأوسط العربي من جهة أخرى.
شاي خزكاني، طالب دكتوراه في التاريخ في مركز “تاوب” للدراسات الإسرائيلية بجامعة نيويورك (NYU)
يشرح البروفيسور إيال ، الذي درس العلاقة بين الشرقيين الإسرائيلين والاستخبارات في مقابلة، أن البحث عن اللاجئين لا يمكن اعتباره أكاديميًا بأي شكل من الأشكال وأنه كان في إطار الهسبراه (لتجميل صورة إسرائيل).
وأضاف إيال أن “التفسير، حتى عندما يتعلق الأمر بالباحثين الأكاديميين ويستخدم المستندات وفقًا لطرق بحث المؤرخين، لا يزال مختلفًا تمامًا عن البحث الأكاديمي أو الأشكال الأخرى من البحث الموضوعي لمجرد أن الغرض مما تريد الحالات إثباته، لذا بطبيعة الحال إذا كانت هناك أشياء أخرى في الملفات، فإنها لا تذهب إلى البحث لأن هذا ليس ما أرادوا العثور عليه”.
المحاولة الثانية
كان بن غوريون، لسبب غير واضح، غير راضٍ عن البحث الذي كتبه غاباي، وعلى الفور بعد انتهاء عمل غاباي، كلّف بن غوريون مستشار الشؤون العربية لدى مكتبه، أوري لوبراني، بإعداد دراسة جديدة.
بعد ذلك كلّف لوبراني موشيه ماعوز بالمهمة، وهو الذي كان حينها طالبًا جامعيًا يدرس دراسات شرق الأوسط في الجامعة العبرية، ويعمل في مكتب لوبراني، ثم أصبح حاليًا بروفيسور تاريخ متخصص في الشأن السوري.
يشرح ماعوز في مكالمة هاتفية: “ذهبت إلى دراسة الاستشراق كجزء من مُنطلق “اعرف عدوك”، وفقط عند ذهابي لدراسة الدكتوراه في جامعة أكسفورد انكشفت على الجانب العربي”.
التقى ماعوز بعدد من الباحثين وشكّل فريقًا معهم تحت مسؤوليته، وبدأ هذا الفريق في جمع عشرات الوثائق في “إسرائيل” وحول العالم، حتى أنه أجرى مقابلات مع ضباط إسرائيليين وبريطانيين، ومع فلسطينيين بقوا في “إسرائيل”.
تم فهرسة الوثائق والمستندات، التي وصل عددها إلى 150 صفحة، بعناية فائقة وتم تحضيرها كملف أدلّة، وفي هذا يقول ماوز: إن بحثه كان مشابهًا جدًا لبحث موريس، كما أشار إلى وضوح حالات ترحيل الفلسطينيين، لا سيما في اللد والرملة.
وأضاف: “لا أعتقد أنني كنت متحيزًا، إلا أنني ربما كنت قد أكدت على قضية الهروب، وعلى الأرجح كنت متأثرًا بالفكر الوطني الذي نشأت عليه بالمدرسة والجيش”.
مع ذلك، فإن الاطلاع على الوثائق المحفوظة في ملف أرشيف الدولة يعطي صورة واضحة للغاية: وفقًا لسجل ماعوز، فإن جميع الوثائق دون استثناء، تثبت أن العرب فروا طوعًا بتعليمات قادتهم.
في كانون الأول/ديسمبر 1961، وقبل بدء البحث، وجّه ماعوز رسالة إلى ديفيد كيمتشي، الذي كان آنذاك كبيرًا في الموساد (لسنوات عديدة كان المدير العام لوزارة الخارجية) وطلب منه المساعدة في جمع الوثائق.
وأوضح ماعوز في رسالته: “نسعى إلى إثبات أن هروب الفلسطينيين كان بسبب تشجيع القادة العرب المحليين والحكومات العربية وبمساعدة البريطانيين، وبسبب ضغوط من الجيوش العربية (العراقية وجيش الإنقاذ) على السكان العرب المحليين”.
وتضمن التقرير النهائي الذي قدمه ماعوز إلى لوبراني، في سبتمبر/أيلول 1962 أنه بعد استكمال جمع الوثائق وإنهاء المهمة التي كُلّف بها، أوضح ماوز أنه تم تكليفه بمهمة أخرى، من أجل إثبات ما طلب منه، وهي بحسب ماعوز: “تكليفه بجمع المواد التي تثبت هروب العرب عام 1948، وتشجيع القادة والمؤسسات العربية، داخل الدولة وخارجها، للعرب الفلسطينيين على الفرار”.
كما تضمنت المهمة إثبات أن الجيوش العربية و”المتطوعين” ساعدوا على الفرار من خلال إخلاء القرى ومعاملتهم القاسية للسكان المحليين، وإثبات مساعدة الجيش البريطاني في أماكن عدة للعرب على الفرار، وليس هذا فحسب، بل إن المهمة تضمنت الطلب بإثبات أن المؤسسات والمنظمات اليهودية بذلت جهودًا لمنع هروب الفلسطينيين.
مباشرة بعد تقديم التقرير النهائي، ترك ماعوز عمله في مكتب ليبراني وذهب لدراسة الدكتوراه في جامعة أكسفورد.
بعد ذلك، جاء طالب دكتوراه آخر اسمه اوري شتندل واستمر في البحث بموضوع الهجرة الفلسطينية، ثم بعد فترة وجيزة من توليه منصبه في أوائل عام 1963، التقى مع بن غوريون الذي شبّهها بـ “الكتاب الأبيض”، في إشارة إلى لجان التحقيق البريطانية التي تم تشكيلها للنظر في الأحداث الرئيسية التي حدثت في الأراضي التي تسيطر عليها ومن ضمنها فلسطين.
وأوضح شتندل: “أتذكر قول بن غوريون حول الحاجة إلى هذا الكتاب الأبيض، لأن هناك العديد من الأقوال التي تفيد أن العرب طردوا ولم يهربوا، وبحسب ما أذكر أنهم هربوا بالفعل، لكن علينا أن نكتب الحقيقة، اكتبوا الحقيقة”.
وقال إنه استمر في جمع المواد لفترة قصيرة، وكان مقتنعًا بأن البحث الذي كتبه هو وماعوز كان دراسة علمية تثبت أن القادة العرب دعوا الفلسطينيين إلى المغادرة، إلا أنه لم يتعمد إثبات وجود الطرد للفلسطينيين.
وعندما أنهى شتندل بحثه، التقى مع بن غوريون لاستعراض النتائج: “أخبرته أن لا يمكن أن يقال إن هنالك تناسق: لم يكن هناك أي نشاط ترحيل مُنظّم من جهة، ومن ناحية أخرى لا يمكننا القول أننا حاولنا في جميع الأنحاء منع العرب من الفرار”.
وأضاف “أخبرته أنه ليس لدي أدنى شك، على سبيل المثال، في وجود التهجير في اللد والرملة”، لذلك سألني بشكل مفاجئ: هل أنت متأكد؟ فقلت له: لم أكن هناك، لا يمكنني التحديد، إلا أنه بحسب ما جمعناه وبحثناه فلقد كان هناك تهجير”.
ومع ذلك، فإن الوثائق التي حفظت في الأرشيف لا تحتوي على أي من الوثائق التي تدل على وجود تهجير، كما أن شتنديل لم يستبعد أنهم فعلاً قاموا بتخفيف وطأتها، إلا أنه استبعد إمكانية ذهابهم إلى إخفاء الحقائق عمدًا.
إضافة إلى ذلك، قال شتندل: “من الواضح أننا كنا نعمل في مكتب رئيس الوزراء وأردنا مساعدة دولة “إسرائيل” في قتالها، لذلك من الطبيعي أن ننظر حقًا لإثبات أننا لم يتم ترحيلنا، قد يكون هذا هو الدافع، لكنني لا أتذكر قول بن غوريون، أو قول لوبراني: “اسمع ، افعل هذا وذاك”.
وبقي شتندل مقتنعًا بأن بن غوريون “لا يعلم بالفعل كيف وُجدت أو صارت قضية اللاجئين عام 1948، لأنه كان مشغولًا وقتها بالتحركات الاستراتيجية ولم يملك الوقت للاهتمام أو التعامل مع هذه القضية”، وبحسب رأيه، وقال إن بن غوريون طلب من العدد من الجهات المختلفة بحث قضية اللاجئين لكي تتوفر له الصورة الكاملة”.
وأضاف: “لو أن بن غوريون أراد أن يقرر سياسيات تهجير لقرّرها بالفعل،(…) لهذا أعتقد أن غريون لم يُدرك أنه وافق على سياسة التهجير، إنما اعتقد أن قراره جاء بسبب ضرورة أمنيّة”، لهذا اعتقد شتندل أن بن غوريون “لم يوافق على سياسية التهجير، ولهذا أراد أن يعرف ما حدث بالفعل”.
الدليل على ذلك هو أنه طلب من العديد من الهيئات المختلفة إجراء بحث حول الموضوع حتى تكون لديه صورة كاملة، “إذا كان بن غوريون قد قرر سياسة ما، لكانت هناك سياسة، ثم دعنا نقول فقط ، أعتقد أن الأقلية العربية في إسرائيل اليوم كانت محدودة أكثر بكثير … لذا أعتقد أن بن غوريون لم يكن يعرف بالضبط. قد يكون في حالة أو أخرى وافق على الترحيل ، عندما قيل لهم أن ذلك مهم للأمن ، لكن استنتاجي هو أن بن غوريون لم يوافق على سياسة الترحيل ، ثم أراد أن يعرف ما حدث بالضبط “.
من المهم الإشارة إلى أن معظم المؤرخين الذين بحثوا في القضية قدموا أدلة على أن بن غوريون كان يعرف في الوقت الحقيقي عن حالات الترحيل الفلسطيني بل وأكدها، وفي غياب معلومات موثوقة عن تلك الفترة، من الصعب اليوم تحديد ما إذا كان بن غوريون قد أقنع نفسه بأن معظم العرب الفلسطينيين غادروا طواعية أو أنه لم يؤمن بذلك، لكنه أراد أن يصدقه التاريخ بذلك.
في عام 1961 عُقد اجتماع وزاري لنقاش قضية اللاجئين، اقترح فيه رئيس الوكالة اليهودية، شاريت، خطة جديدة لتصفية قضية اللاجئين وهي: “تسريب المواد التي سيتم جمعها في أبحاث الصحافة الأجنبية، بحيث يُمكن نشرها على أنها تحقيقات “موضوعية” دون تحديد مصدر المادة”، موضحًا أنه “يجب نشر المواد بأهم وأكبر الصحف”.
“هذا يعني أنه يجب عليك تأليف خطة لكل “بلد، وتحديد من هو “الضحية “، مع التزوّد بالمعلومات الكافية والحجج المناسبة مع إعداد تقارير موسعة لتأكيد الرواية التي نطرحها، لا سيما أن هذا السؤال سكون الأهم خلال الفترة المقبلة”.
يبدو أن بن غوريون تبنى الفكرة، وفي مكتب مستشار الشؤون العربية في مكتب رئيس الوزراء، قام شتندل بالتوجيه والاتصال بأفياد يافي، الذي كان آنذاك رئيس قسم “الهسباره” بوزارة الخارجية، ووفقًا للاتصال بينهما في مايو/أيّار 1964 “اتفق الاثنان على إحالة المواد التي تم جمعها إلى صحفي أجنبي من إحدى المجلات المشهورة بحيث تنشر سلسلة مقالات حول من موضوع “الهروب”، إلا أنه وفقًا لشهادة شتندل، لم يتم تنفيذ الخطة.
التاريخ في ظلال وردية
على الرغم من أن أبحاث ماعوز وشتندل حول “الهروب العربي” ربما فقدت للأبد، فإن أرشيف الدولة لديه أدلة واضحة تظهر أن العلماء الذين تعاملوا مع القضية في الستينيات لم يرسموا صورة كاملة لدور “إسرائيل” في خلق مشكلة اللاجئين.
وتعكس قصة كتابة الدراسة والطريقة التي ينظر بها إليها أعضاؤها اليوم تطور موقف الإسرائيليين من النكبة الفلسطينية.
في الستينيات، لم يجرؤ أحد على الاعتراف علنًا بأن “إسرائيل” قامت بترحيل الفلسطينيين، إلا إنه في الوقت الحالي وفي حقبة ما بعد أوسلو و”المؤرخون الجدد”، لم تعد المسؤولية الإسرائيلية بمثابة الـ “تابو”.
في الوقت الحالي، وبعد إعادة قراءة الملف في أرشيف الدولة، الذي يحتوي على المُلخصات التي كتبها ماعوز بنفسه في الستينيات، قال: “أعتقد أنني في هذه المرحلة من حياتي كانت متمسكًا بالفكر الذي تمسك به أغلب يهود “إسرائيل”، وهو فكر المؤسسة الإسرائيلية، الذي يقول إن العرب هربوا لأن قادتهم هربوا قبلهم، أو لأنهم شجعوهم وطلبوا منهم الهروب، في الوقت الذي طالبت فيه مؤسسات يهودية العرب بالبقاء. كما وأنني لم أذكر في بحثي أن جزءًا كبيرًا من العرب هربوا بسبب الهلع والخوف من الحرب والمذابح، وأن الجيش أقدم في حالات أخرى على طرد بعضهم فقط، ومن الممكن أن هذه المعلومات لم تظهر مع باقي المواد أو أنها لم تقيّم بطريقة سليمة”.
ويشرح معاوز أنه غيّر رأيه وموقفه السياسي في فترة دراسته في أكسفورد، وبعد أن عاد من دراسة الدكتوراه، ورغم من استمراره بالعمل لصالح الحكم العسكري في الضفة، إلا أنه تعاطف أكثر مع الفلسطينيين أكثر من تعاطفه مع الحكومة الإسرائيلية، وبالنهاية أطيح بماعوز على يد قائد الأركان العسكرية رفائيل ايتان، بعد أن صرح في إحدى مقابلاته على القناة الاسرائيلية في بداية الثمانينات، أنه يتوجب على “إسرائيل” التفاوض مع قادة الضفة الغربية والذين ينتمون لمنظمة التحرير الفلسطينية.
ولم يعد معظم المؤرخين حول العالم وفي “إسرائيل” يتناقشون حول أن جنود جيش “الدفاع” الإسرائيلي طردوا العديد من الفلسطينيين من منازلهم خلال 1948، ولم يسمحوا لهم بالعودة إلى قراهم بعد انتهاء القتال، لكن النقاش حاليًا يتركز حول إذا ما كانت عمليات الطرد ضمن خطة ممنهجة وافق عليها بن غوريون.
ويظهر ملف “جال” أن الجواب على سؤال “ما الذي حدث بالفعل؟” كان مرنًا جدًا منذ قيام دولة “إسرائيل”، وكان متعلقًا بهوية السائل وهوية المُجيب.
مع ذلك، من المشكوك فيه ما إذا كان غاباي وماعوز وشتندل وليبراني قد كذبوا عن علم، والمحتمل أكثر أنخ طُلب منهم خداع حتى أنفسهم لرسم صورة أكثر وردية عن عام 1948، وهي السنة التاسيسية التي غيرت تاريخ الشعب اليهودي من جهة، وتاريخ الشرق الأوسط العربي من جهة أخرى.
شاي خزكاني، طالب دكتوراه في التاريخ في مركز “تاوب” للدراسات الإسرائيلية بجامعة نيويورك (NYU)
المصادر:
(1) “هآرتس”: https://bit.ly/2zKqZLm
طالما قمعت قوات الاحتلال الإسرائيلي المصلين في المسجد الأقصى بمختلف الطرق، وربما كان أبرزها مؤخرًا…
يستعدّ المسيحيون للاحتفال بعيد الفصح وسبت النور بكنيسة القيامة في القدس، فيما ينشغل الاحتلال، كعادته؛…
قبيل النكبة، سكن مدينة حيفا نحو 61 ألف فلسطيني، وبقي فيها أقل من 20 ألف…
باتت مسيرة الأعلام أو رقص الأعلام في البلدة القديمة في القدس طقسًا مكررًا للاستفزاز والتصعيد…
يمتدّ تاريخ الصراع حول الأذان حتّى ما قبل النكبة؛ في العقدين الثاني والثالث من القرن…
لا يقتصر القمع الإسرائيلي للفلسطينيين على الأحداث الميدانية المشتعلة في القدس والمسجد الأقصى، بل إنه…