مقدمة العساس | مع التعريفات المُختلفة لطبيعة الصراع بين فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، سواء كانت سياسية أو قومية أو أيديولوجية، يبقى المسجد الأقصى في كل الحالات الرمز الأكثر وضوحًا لقياس مدى تفوق أحد الطرفين، إذ تبدو المقولة الصهيونية “من يتحكم في الأقصى، يتحكم في البلاد” حقيقية أكثر من أي وقتٍ مضى.
هذه المادة تُعرّف بمفهوم “الوضع القائم” في المسجد الأقصى، وتشرح التغيرات التي طرأت عليه منذ نشأته وصولًا إلى الوقت الحالي.
إعداد العساس |
ما هو الوضع القائم؟
بعد ساعات معدودة من النكسة “حرب الأيام الستة”، واحتلال مدينة القدس وصل وزير الأمن الإسرائيلي حينها موشيه ديّان إلى المسجد الأقصى “جبل الهيكل” وبدأ العمل على خلق تسويات ستُعرف لاحقًا باسم “الوضع القائم في المسجد الأقصى”.
في ذلك الوقت، أمر ديّان بإنزال العلم الإسرائيلي الذي ارتفع في المسجد الأقصى، وأخلى قوّات المظليين (فصيل في الجيش الإسرائيلي)، الذين انتظموا بالبقاء ضمن القسم الشمالي من المسجد، ثم عمل مع عدد قليل من المستشارين، كان بينهم دافيد برحي، مستشار الشؤون العربية ومحاضر لتاريخ الإسلام في الجامعة العبرية في القدس، والذي أثّر كثيرًا على ديّان.
تركزت أفكار ديّان التي تم جمعها في كتاب، على أن المسجد الأقصى هو “مكان عبادة للمسلمين، ومكان تاريخي بالنسبة لليهود لتذكّر الماضي”، وتضمنت أفكاره أيضًا أنه “لا يجب مضايقة العرب بل يجب الاعتراف بحقّ المسلمين في سيادة المكان”، وهذا ما انعكس على التسوية الجديدة التي تشكّلت باعتقاد حول الخطة الصحيحة لمنع انزلاق الصراع القومي إلى صراع ديني وحرب دينية أكثر خطورة.
وينصّ “الوضع القائم” على استمرار مسؤولية وزارة الأوقاف الأردنية في إدارة الوقف، بحيث تكون مسؤولة عن التسويات والشؤون الدينية والمدنية، مع عدم السماح لليهود في الصلاة داخله، إنما يقتصر الأمر على زيارته (هذا الحقّ مكفول في قانون حماية الأماكن المقدّسة).
بينما تقع مسؤولية الأمن في المكان المقدس على عاتق الشرطة الإسرائيلية سواء في الساحات الداخلية أو على البوابات والأسوار، كما تحلّ السيادة الإسرائيلية والقانون على المسجد الأقصى كما في كل جزء من القدس التي فرض عليها القانون الإسرائيلي بعد النكسة (هذا القرار تمت المصادقة عليه مرات كثيرة من قبل المحكمة العليا).
أمّا آلية الدخول إلى المسجد، فكانت عبر بوابات مُحدّدة، إذ تم تخصيص بوابة المغاربة في الجهة الغربية في مركز حائط البراق “حائط المبكى” كمنفذ وحيد لليهود، في حين كان دخول المسلمين من باقي البوابات، والسياح كان يمكنهم الدخول من بوابات: المغاربة، والسلسلة، والقطانين. (1)
(اليوم يسمح بدخول السياح من باب المغاربة فقط)
بداية انهيار الوضع القائم
في سبتمبر/أيلول عام 1996 (هبة النفق التي جاءت على إثر حفر اليهود نفقًا تحت الأقصى) انهار الوضع القائم الذي وجد منذ عام 1967 بين “إسرائيل” والأردن، وبسبب ذلك انتقل القسم الشمالي داخل الخطّ الأخضر إلى أيدي السلطة الفلسطينية والحركة الإسلامية، ما أدى إلى إغلاق المسجد الأقصى بوجه المستوطنين حتى سبتمبر/ أيلول من عام 2000 حين اقتحم أرئيل شارون المسجد الأقصى، منذ ذلك الوقت حتى عام 2003 أغلق الأقصى بوجه اقتحامات المستوطنين.
بدأت سياسة “الوضع القائم” في التآكل بشكل كبير منذ إعادة فتح المسجد الأقصى أمام اليهود في آب/أغسطس 2003، إذ بدأت تتنظّم تيارات دينية قومية يهودية لتشجيع اقتحامات المسجد الأقصى بدعم الحاخامات اليهود ومنظمات كان المسجد الأقصى على رأس أولوياتها.
هذه النشاطات تغلغلت إلى قلب المؤسسة الحكومية والجماهيرية، وبدأ عدد من أعضاء الكنيست باقتحام المسجد الأقصى بشكل ثابت ومنتظم، بل إنهم شجعوا آخرين للقيام بذلك، كما عززت الشرطة وجودها في المسجد وسهلت تلك الاقتحامات دون الإكتراث بأنها ستساهم بتغيير “الوضع القائم”.
هبة القدس وبدء التقسيم البطيء
أما بين عامي 2013 و2015، جاءت الاحتجاجات الفلسطينية على “الوضع القائم”، بالتالي تآكل تأثيره بشكل أكبر في المسجد الأقصى، لا سيما بعد فتح المجال أمام اليهود إلى دخول المسجد، واتخاذ “إسرائيل” مبادرة أحادية الجانب للسماح لليهود بالدخول برفقة جماعات يهودية مؤدلجة، وتحديد الشرطة الإسرائيلية لأعمار المسلمين المصرّح لهم بالدخول. (2)
بعد محاولة اغتيال يهودا غليك رأس المقتحمين واشتعال مواجهات في القدس والأقصى في عام 2014، وصل نقاش “الوضع القائم” إلى الكنيست، إذ دعمت ميري ريجيف عضو الكنيست من الليكود، وأوري أرئيل وزير الإسكان، وأعضاء آخرون مطالب حركة جبل الهيكل بتغيير “الوضع القائم” والسماح لليهود بدخول المسجد الأقصى، حينها عارض نتنياهو، ويتسحاك اهرنوفيتش وزير الداخلية، وتسيفي ليفني وزيرة القضاء حينها ذلك ودعوا إلى المحافظة على الوضع القائم هناك.
ومع اندلاع هبة القدس على خلفية الأحداث التي حصلت في المسجد الأقصى عام 2015، تبيّن أن “إسرائيل” مقيدة تمامًا، حينها حدثت تفاهمات جديدة أدارها سكرتير البيت الأبيض ضمّت الأطراف الثلاث أبو مازن والأردن ونتنياهو، وجاء فيها أن اليهود الذين يدخلون الأقصى هم زوار وليسوا مصلّين، وبذلك يتم العودة إلى “الوضع القائم” الذي ساد منذ عام 1967. (3)
وكانت الإجراءات التي طبقها الاحتلال لتسهيل التقسيم البطيء تتلخص بإخراج الحركة الإسلامية عن القانون، وحظر المرابطات والمرابطين، واعتبارهم بمثابة “التنظيم المعادي”. (4)
دور الأردن
تعتبر المملكة الأردنية بمثابة المحور المركزي لإدارة وحلّ النزاع في المسجد الأقصى، باعتبار أن اتفاقية السلام مع “إسرائيل” منحتها مكانًا في الأقصى، ويظهر ذلك في الدعوة الإسرائيلية للأردن إلى إجراء أعمال ترميم في الأقصى وتعزيز مكانة الوقف أمام الحركة الإسلامية وحركة حماس.
وتعمل الأردن كوسيط بين كل أصحاب الشأن المسلمين في الحرم الشريف، كونها تعتبر الوكيل على الأماكن المقدسة في المسجد الأقصى، رغم ذلك قد تفقد الأردن شرعيتها في العالم الإسلامي إذا ما قامت “إسرائيل” بخطوات فردية من أجل فرض سيادتها على المسجد الأقصى.
ومع كل ذلك، هناك مصالح استراتيجية إسرائيلية مشتركة مع الأردن، وعليه كل خطوة إسرائيلية في المسجد الأقصى يجب أن تؤخذ عواقبها بالحسبان على العلاقات مع الأردن. (5)
نهاية “الوضع القائم”
خلال أغسطس/آب 2019، أكد وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان في خطاب له، على ضرورة تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى في المستقبل، كما قال في لقاء إذاعي على راديو 90 FM في برنامج “نصف الطريق”: “هناك ظلم في الوضع القائم منذ عام 1967، يجب العمل من أجل تغييره لتمكين اليهود من الصلاة في المسجد الأقصى المكان الأقدس عند الشعب اليهودي، يجب العمل من أجل الوصول إلى وضع يُعطي اليهود أحقية للصلاة هناك، إلا أنه يجب التوصل إلى ذلك عبر تسويات سياسية وليس بالقوة”. (6)
وفي ذات الشهر، وفي ذكرى “خراب الهيكل” الأول والثاني والتي تزامنت مع فترة عيد الأضحى لدى المسلمين، خلص اجتماع نتنياهو مع رئيس الشرطة والشاباك إلى أن دخول اليهود إلى المسجد الأقصى في هذا اليوم يستلزم تعزيزات أمنية.
وصرّح أردان: “في التاسع من آب 2019 دخل إلى الأقصى 1729 يهوديًا، مقابل دخول 1440 يهوديًا في نفس اليوم من عام 2018 وهو يوم الذكرى”، مضيفًا: “سأستمرّ بالعمل على تعزيز السيادة الإسرائيلية في جبل الهيكل مثلما عملت في السنوات الأربع الفائتة التي ارتفع بها عدد الزوار اليهود لجبل الهيكل بـ 350%”.
أمّا وزير المواصلات بتسئيل سموتريتش قال: “إن إغلاق المسجد الأقصى في التاسع من آب هو خزي وعار ويذكّرنا بالسبب الذي نصوم من أجله اليوم، القرار بالخضوع إلى الإرهاب والعنف العربي بالمكان الأقدس عند اليهود وهو الأساس لفقدان الردع في باقي المناطق”.
ودعا سموتريتش نتنياهو إلى الاجتماع في الكابينيت، من أجل فتح المسجد الأقصى أمام اليهود، وقال: “السيد رئيس الوزراء، إذا لم تكن لديك الشجاعة لاتخاذ هذا القرار بمفردك، اجمعنا، ونحن سنتحمل المسؤولية، الاحترام والعزم الوطنيان ضد الإرهاب هما الأبجدية لمفهوم الأمن لدينا”.
بينما قالت رئيسة حزب اليمين الموحّد أيليت شاكيد: “من يحكم الجبل يحكم البلاد، في مثل هذا اليوم دولة ذات سيادة يجب عليها السماح لمواطنيها بالدخول إلى جبل الهيكل، إغلاق جبل الهيكل أمام اليهود بسبب التهديد بالعنف يقود إلى عنف، عندما نخضع للإرهاب، الإرهاب ينتصر”.
هذا النقد دفع أنصار نتنياهو إلى الرد، وقالوا إن الدخول تم تحديده حسب تقديرات الشرطة ولم تصدر في أي مرحلة تعليمات بإغلاق المكان، وقال قائد الشرطة في منطقة القدس إن قرار الإغلاق كان قراره والأجهزة الأمنية تبنت هذا القرار. (7)
يذكر أن نتنياهو قد قال في تغريده على تويتر: “قرار فتح الأقصى لليهود في التاسع من آب كان محسومًا، السؤال اليوم ليس ما إذا كان اليهود سيدخلون جبل الهيكل، إنما السؤال هو عن كيفية إدارة هذه الخطوة بأفضل طريقة تحفظ أمن وسلامة الجمهور، وهذا ما فعلناه بالضبط”. (8)
وعلى الجهة المقابلة، هاجم وزير الأوقاف الأردني وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان على ضوء أقواله بحلول أوان إتاحة الصلاة لليهود في المسجد الأقصى وأن الوضع القائم فيه ظلم لليهود، وبعثت الأردن مكتوب احتجاج رسمي عبر القنوات الدبلوماسية تشجب أقوال أردان.
وتنص الرسالة على أن المملكة الهاشمية تعترض بشدة على هذه التصريحات وتحذر من كل محاولة من المسّ بالوضع القائم التاريخي والقانوني ومن عواقب ذلك، وطلبت الأردن من السلطات الإسرائيلية أيضًا التوقف عن هذه المحاولات. (9)
المصادر :
(1) المركز اليوروشلمي : https://bit.ly/2zY1MI2
(2) معهد يروشلايم للدراسات الإسرائيلية : https://bit.ly/33Oxdo6
(3) المركز اليورشلمي : https://bit.ly/2zY1MI2
(4) منتدى التفكير الإقليمي : https://bit.ly/2Zo2EpU
(5) معهد يروشلايم للدراسات الإسرائيلية : https://bit.ly/33Oxdo6
(6) معاريف : https://bit.ly/2Hj4cY1
(7) يديعوت أحرنوت : https://bit.ly/33QkYHV
(8) حساب نتنياهو على تويتر : https://bit.ly/2P3Bjpd
(9) كان : https://bit.ly/2zeXRss
طالما قمعت قوات الاحتلال الإسرائيلي المصلين في المسجد الأقصى بمختلف الطرق، وربما كان أبرزها مؤخرًا…
يستعدّ المسيحيون للاحتفال بعيد الفصح وسبت النور بكنيسة القيامة في القدس، فيما ينشغل الاحتلال، كعادته؛…
قبيل النكبة، سكن مدينة حيفا نحو 61 ألف فلسطيني، وبقي فيها أقل من 20 ألف…
باتت مسيرة الأعلام أو رقص الأعلام في البلدة القديمة في القدس طقسًا مكررًا للاستفزاز والتصعيد…
يمتدّ تاريخ الصراع حول الأذان حتّى ما قبل النكبة؛ في العقدين الثاني والثالث من القرن…
لا يقتصر القمع الإسرائيلي للفلسطينيين على الأحداث الميدانية المشتعلة في القدس والمسجد الأقصى، بل إنه…