حيرة إسرائيلية تجاه إعمار سوريا

مقدمة العساس | دائمًا ما تسعى “إسرائيل إلى جني كل ما تستطيعه بعد أي صراع مسلح، سواء كانت ضمن أطرافه بشكل معلن أو خفي، إلا أن الأزمة السورية تمثل مفترق طرق بالنسبة لهذا النهج، حيث تطرح مساهمتها في إعادة إعمار دولة تعتبر “معادية”، جملة من الإيجابيات والسلبيات.

هذا المقال المترجم عن معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، يبحث خيارات تدخل أو تنحي الاحتلال عن المساهمة في إعادة إعمار سوريا، وتبعات ذلك أمنيًا واستراتيجيًا.


ترجمة العساس | خلال السنوات المقبلة، ستعمل سوريا على تضميد جراح الحرب، مع الاستمرار بكونها منصّة تهديدات استراتيجية إيرانية موجه إلى “إسرائيل”، لذلك من مصلحة الأخيرة البدء بعمليّة إعادة إعمار البنية التحتيّة والاقتصاد السوريّ، إذ سيساهم ذلك في انشغال الجهات السوريّة والجهات الأخرى ببناء الدولة وباستقرارها، ممّا سيوفّر أيضًا عنوانًا حكوميًا موحّدًا ومسؤولًا.

رغم ذلك، هناك قلق تجاه هذا الاستقرار، والحكومة الإسرائيلية يمكنها المساهمة في المساعي الّتي ستقودها جهات عربيّة وغربيّة من أجل إعادة إعمار سوريا، شريطة نفي ومنع التدخّلات الإيرانيّة في المنطقة، أمّا عدم المساهمة من قبل الجهات الغربيّة والعربيّة قد يؤدّي إلى زعزعة استقرار سوريا ممّا يرفع احتمالات حدوث موجات عنف أخرى وظهور مجموعات “سلفيّة جهاديّة”، الأمر الّذي قد يشكّل الأرض الخصبة للنفوذ الإيرانيّ ولتعمّق أساساته.

وشهد عام 2018 سيطرة نظام الأسد على سوريا، وانتقال التركيز من محور المحاربة إلى محور تشكيل وجه الدولة وإعادة إعمارها ما بعد انتهاء الحرب، وبهذا الشأن تُقدّر المؤسّسات الدوليّة أضرار خلال سنوات الحرب بحوالي 350 – 400   مليار دولار، ويشمل ذلك تقدير الأضرار الماديّة الشديدة الّتي لحقت بالبنية التحتيّة والانهيار الاقتصاديّ وفقدان مصادر الدخل.

ويمكن إصلاح الضرر الماديّ الحاصل بواسطة المساعدات الخارجيّة، حتّى وإن استمرّت عمليّة إعادة الإعمار سنوات طويلة، بينما سيتطلّب الأمر وقتًا أطول قد يصل إلى عشرات السنوات لإصلاح مكوّنات الضرر الأخرى المتعلقة بالإنتاج المحليّ والناتج الإجماليّ المستقبليّ، وهروب الطبقة الوسطى والعليا من الدولة، والضرر اللاحق بتعليم جيل الشباب.

كما وتواجه سوريا تحديّات اجتماعيّة كبيرة تقف على رأسها التوترات العرقيّة وغياب التكافل الاجتماعيّ والفساد والمحسوبيّة وتعزيز النخبويّة الاقتصاديّة الجديدة المقرّبة من الأسد.

التحديات الداخليّة

يُسيطر الآن الأسد وقواه الداعمة له على حوالي 70٪ من أراضي سوريا، والّتي تضمّ معظم المناطق الحضريّة وأكثر من نصف السكّان، كما أن حكم النظام يمتدّ على نطاق واسع  على خطّ العمود الفقريّ الحضريّ لسوريا (دمشق، حمص، حماة). ورغم أن النظام يسيطر عسكريًا على شرق سوريا وحلب (الّتي فقدت مكانتها كمركز اقتصاديّ قبل عام 2011) إلّا أنّه يواجه صعوبة في تطبيق الحكم المدنيّ، بينما في منطقة إدلب، آخر معقل الثوّار، ليست هناك أي سيطرة للنظام.

من جهة أخرى، تتمتّع المنطقة الكرديّة شرق نهر الفرات بالحكم الذاتيّ، ولكنّها مهدّدة بخسارة هذه الحكم، عقب قرار رئيس الولايات المتّحدة دونالد ترامب، بسحب القوّات الأمريكيّة من سوريا، والّتي كانت تساعد الأكراد وتواجه العزم التركيّ حول منع الحكم الذاتيّ للأكراد في هذه المنطقة.

ورغم استنباط النتائج والحِكَم من الحرب، لم يبدأ النظام بعلميّات إعادة تأهيل شاملة من شأنها العودة بالنفع على كافة المواطنين السوريّين؛ إنما يركّز النظام جلّ قوته على تحسين أوضاع المراكز الحضريّة الواقعة تحت سيطرته، ويبقى نشاطه خارجها ضمن المحدود والمقلّص؛ بل ويُزعم أنّ الأسد يوسّع نفوذه عبر التعاون مع رؤساء مافيا محليّين.

ويبدو أنّه رغم وجود القيود على الموارد، سيتنازل النّظام عن المساعدات الغربيّة في مشروع إعادة الإعمار في حال كان المقابل لهذه المساعدات هو تبنّي أنظمة غربيّة (ديمقراطيّة)، وتفاديًا لذلك يحاول النظام في هذه المرحلة تجنيد الأموال والاستثمارات الخارجيّة من مصادر خاصّة.

وفي قضية عودة اللاجئين، يأخذ النّظام أمرين بعين الاعتبار فقط: الأول هو فهمه أن العودة ضروريّة لإعادة إعمار سوريا، حيث أنّهم يقدّمون دورًا هامًا في التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة بعد الحرب، وأن بقاء اللاجئين وخاصّة أصحاب رؤوس الأموال منهم خارج سوريا سيبطئ عمليّة إعادة الإعمار بشكل ملحوظ، بينما الأمر الثاني هو خشية النظام من عودة الناس الّذين يريدون تبديله، فقد ساهمت عمليّة التطهير السياسيّ والديموغرافي طوال سنوات الحرب بجعل البيئة أكثر استقرارًا ومناسبةً للنظام ممّا يجعل إمكانية عودة هؤلاء الناس صعبة، ما يدفع النظام إلى اتّخاذ خطوات للتقليل من تأثير عودتهم.

عدم تلقّي المساعدات الغربيّة – زيادة اعتماد النظام على إيران

يُظهر نهج الأسد سعيه إلى تعزيز التوجّه الدكتاتوريّ في نظامه عقب الحرب، مع الحفاظ على علاقات وثيقة بينه وبين حلفائه الذين دعموه سيما إيران وروسيا، إذ يقوم النظام في هذه المرحلة بالتنقّل بين الدعم الإيرانيّ والدعم الروسي، مع تفضيله لروسيا لكونه يخشى تدخّلًا إيرانيًّا مفرطًا في إدارة الدولة.

وتقوم إيران بإعادة تأهيل البنى التحتيّة الكهربائيّة في سوريا، وذلك من أجل تعزيز نفوذها في الدولة السوريّة والاستمرار بالتوطيد على الصعيد العسكريّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والتعليميّ والسياسيّ، كما واستلمت في البداية تصنيع الفوسفات، إلّا أنّ النفوذ الروسيّ عليه آخذ بالازدياد، ليتم ضمه إلى البنية التحتيّة النفطيّة التي تسيطر عليها روسيا.

بدورها، تحاول روسيا تعزيز نفوذها في سوريا عبر تعزيز المصالح الاستراتيجيّة والاقتصاديّة، الّتي تمكّنها من التأثير على النظام مستقبلًا، وتفعل ذلك عبر: المساعدة في إعادة البناء لمواقع الجيش السوريّ وفي تسليحه؛ وتوفير الجهود لتخطيط وتنظيم العمليّات السياسيّة ذات الصلة؛ والاستحواذ على الموارد الطبيعيّة ووسائل نقلها – بناء أنابيب غاز، وتوسيع مطار طرطوس، ووضع خطوط سكك حديديّة من حقول الفوسفات إلى الميناء، وإنشاء طريق تجاريّ إلى ميناء نوفوسيبيرسك.

بهذا الشأن، تواجه روسيا عائقًا أساسيًا يتمثل بافتقارها إلى القدرة الماديّة المستقلّة المناسبة للقيام بكلّ هذه الخطوات، ولهذا تشترط الشركات الروسيّة اشتراكها في مشروع إعادة الإعمار بالحصول على الفوائد التنافسيّة والأرباح الفوريّة.

فيما يتعلّق بالمجتمع الدوليّ، فقد أعرب عن استعداده لتقديم المساعدات لإعادة تأهيل سوريا بشرط تأدية إصلاحات حكوميّة واقتصاديّة واجتماعيّة، إلّا أنّ النظام لم يوافق على هذه الشروط، ولذلك ليس من المتوقع أن تقدّم الدول الغربيّة مساعدات مهمّة (عدا عن المساعدات الإنسانيّة المحدودة).

وفرض الاتّحاد الأوروبيّ في يونيو حزيران عام 2018، عقوبات وتحديدات مفروضة على تقديم المساعدات إلى نظام الأسد، وطُلب منه النظر في تمديدها بشكل سنويّ؛ وهذه العقوبات تمنع وتحدّ من المشاركة الغربيّة في مشاريع إعادة الإعمار، ممّا يُعزّز اعتماد النظام السوريّ على إيران وروسيا.

ورغم أنّ الدول العربيّة بدروها تدعم بقاء الأسد في الحكم وتساهم في إعادة بناء العلاقات في خطّ أكثر براجماتيّة، إلّا أنّها تشترط منح المساعدات الاقتصاديّة بتقليل الحضور والتأثير الإيرانيّ في الدولة، كما تخشى دول الخليج السنيّة أنّ قرار رفع أيديها بشكل تامّ عن إعادة تأهيل سوريا سيساهم في سيطرة إيران على الدولة مثلما حدث في العراق.

الآثار المترتّبة على “إسرائيل”

رغم أنّ النظام يفضّل في المرحلة الحاليّة تضميد جراح الحرب ويستصعب تجنيد الموارد لبناء الجيش السوريّ، إلّا أنّ على “إسرائيل” البقاء في حالة يقظة لإمكانية قيام الجيش السوريّ من الأزمة بشكل سريع وقبل إعادة الإعمار المدنيّ أو نظام الرقابة الكامل، وهذا بفضل المساعدات الخارجيّة لبناء قوى الجيش الّتي يتلقاها نظام الأسد من روسيا وإيران، وأيضًا بسبب الحاجة لإنشاء ردّ عسكريّ على الهجمات الإسرائيليّة المتكرّرة على الأراضي السوريّة.

وحال بقاء سوريا والمجتمع في حالة خراب، فإن هذا لن يمنع بناء النظام لدفاع جوّي متطوّر ونظام صواريخ أرض – أرض وجيش بريّ متأهّب وقويّ، وفي ذات الوقت، ستبقى سوريا منصّة للتهديدات الاستراتيجيّة التي تشمل نشر أنظمة صواريخ دقيقة وأنظمة جمع إيرانيّة، بالإضافة إلى وجود قوى الحلفاء الإيرانيّة المتمثلة بـ “قوّة قدس”، و”حزب الله” و”الميليشيات الشيعيّة” الموجودة في أراضي سوريا فيما يشمل الحدود الإسرائيليّة.

وتدفع حالة الضعف سوريا إلى الاعتماد على الدعم الخارجي المعادي لـ “إسرائيل” وبالذات إيران، ومع زيادة حصّتها في عمليّة إعادة الإعمار، قد تستخدم إيران مستقبلًا الأراضي السوريّة لبناء قواعد عسكريّة طويلة الأمد عبر استغلال ضعف النظام وديونه المتراكمة لإيران، ورغم ذلك، سيحد ضعف إيران الاقتصاديّ (الّذي سيتأثر أيضًا من فاعليّة العقوبات الأمريكيّة ضدّها) من قدرتها في المساهمة بإعادة الإعمار.

هذا، وتصبّ عمليّة إعادة الإعمار في مصلحة “إسرائيل”، حيث يساهم في تحويل الانشغال السوريّ واهتمام الجهات الأخرى إلى الوضع الداخليّ في سوريا وبالاحتياجات المدنيّة، مما يشمل إعادة بناء الدولة وتحقيق استقرارها، وكلّما كانت الساحة السوريّة أكثر استقرارًا وأكثر تركيزًا في عمليّة إعادة الإعمار، تقلّ الحريّة الإيرانيّة في العمل على تعزيز نفوذها وبناء قواعدها العسكريّة داخل سوريا، وهذا الأمر الّذي من شأنه المساهمة في تقليص احتمالات تجديد الموجات الجهاديّة السلفيّة في سوريا. كما وتُفضّل “إسرائيل” أن يكون النظام في سوريا مستقرًّا وناجعًا لكي يوفّر عنوانًا مسؤولًا لعمليّات إعادة الإعمار، وأيضًا لكلّ ما يخصّ العمليّات العسكريّة أو “الارهابيّة” في داخل سوريا.

جرّاء هذا الحالة، يُمكن لـ “إسرائيل” الاستفادة من مصالحها المشتركة مع الدول العربيّة البراغماتيّة في كبح نفوذ إيران ضمن المنطقة، والمساهمة في إنشاء قوة عمل عربية ودوليّة مشتركة لإعادة إعمار سوريا، كما يُمكن لـ “إسرائيل” اقتراح خطط مساعدة مخصّصة تعتمد على الموارد الخليجيّة والتكنولوجيا والخبرة الإسرائيليّة (مثلًا: في مجالات التكنولوجيا المدنيّة، تنقية المياه والزراعة المتقدّمة)، شريطة أن يتمّ إخراج إيران من مشروع إعادة الإعمار ومن التأثير الّذي قد تملكه على العمليّة.

ويخضع المقترح الإسرائيلي لأربع شروط تتمثل بحظر أي مبادرة إقليميّة أو دوليّة لمناقشة إعادة مناطق مرتفعات الجولان إلى سوريا؛ وتخصيص موارد إعادة الإعمار لجنوب سوريا المتمثل بمرتفعات الجولان السوريّة – وهي منطقة من المتوقّع أن يتخلّى عنها النظام اقتصاديًا؛ إضافة إلى الحدّ من النفوذ الإيرانيّ وإزالة نوابه من الحدود في هضبة الجولان؛ وأخيرًا إعطاء الأولويّة لروسيا في المشاريع الاقتصاديّة التأهيليّة بلا أي تدخّل إيرانيّ.

وكانت إدارة ترامب قد أعلنت أنّه من مصلحتها خروج القوّات الإيرانيّة وحلفائها من سوريا والحدّ من نفوذها هناك، لذلك يجب على “إسرائيل” العمل مع الولايات المتحدة للاتفاق على كيفيّة تحقيق هذه الأهداف، إذ تعتبر الولايات المتّحدة بمثابة العامل المؤثر في أهم المؤسسّات الماليّة في العالم مثل صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ وأشباهها، ويتوقع تأثير هذه المؤسسات على عمليّة إعادة الإعمار بطريقة أو بأخرى.

وتشكّل مسألة إعادة إعمار سوريا معضلة بالنسبة إلى “إسرائيل”؛ التي لديها مصلحة في دعم جهود إعادة الإعمار الّتي ستقودها الدول الغربيّة والعربيّة من جهة، شريطة أن يُحدّ نفوذ إيران من أراضي الدولة، فعدم تحقيق هذا الهدف وعدم مساهمة الدول العربية والغربيّة في عمليّة إعادة الإعمار سيصعّب على النظام البدء من جديد في تأسيس ميليشياته وفي الترميم الماديّ، الاقتصاديّ، والاجتماعيّ، ممّا سيرفع احتمال اندلاع موجات عنف جديدة وظهور السلفيّة الجهاديّة مجدّدًا، الأمر الّذي سيزعزع الاستقرار السوريّ وسيجعل الساحة مفتوحة للتدخّل الإيرانيّ ولتوسيع نفوذ إيران.

لذلك، يجب على “إسرائيل” البدء بالمحاولات غير المباشرة للمساعدة في إعادة الإعمار بالاشتراك مع الدول العربيّة السنيّة أو مع دول الغرب حتّى من دون تحقيق وعود حدّ النفوذ الإيرانيّ في سوريا، ممّا يعني تخلّي “إسرائيل” عن لعبة “المجموع الصفريّ” ضدّ إيران فيما يتعلّق بنفوذها في سوريا.

كُتب المقال في إطار مشروع بحث مشترك بين معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، وقسم بحوث الاستخبارات العسكريّة في “إسرائيل”.

المصدر: معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي
عنوان المادة الأصلي:إعمار سوريا- الحيرة الإسرائيلية
تاريخ النشر:22.01.2019
رابط المادة:https://bit.ly/2TjvB04

نداء محاميد

طالبة طبّ عامّ في الجامعة العبريّة في القُدس

Recent Posts

طائرة القنابل: صنعت خصيصًا للفلسطينيين

طالما قمعت قوات الاحتلال الإسرائيلي المصلين في المسجد الأقصى بمختلف الطرق، وربما كان أبرزها مؤخرًا…

3 سنوات ago

تهجير المسيحيين بعيد الفصح

يستعدّ المسيحيون  للاحتفال بعيد الفصح وسبت النور بكنيسة القيامة في القدس، فيما ينشغل الاحتلال، كعادته؛…

3 سنوات ago

شهاداتهم عن تهجير حيفا

قبيل النكبة، سكن مدينة حيفا نحو 61 ألف فلسطيني، وبقي فيها أقل من 20 ألف…

3 سنوات ago

مسيرة الرقص الاستيطاني

باتت مسيرة الأعلام أو رقص الأعلام في البلدة القديمة في القدس طقسًا مكررًا للاستفزاز والتصعيد…

3 سنوات ago

10 أعوام من تاريخ منع الأذان

يمتدّ تاريخ الصراع حول الأذان حتّى ما قبل النكبة؛ في العقدين الثاني والثالث من القرن…

3 سنوات ago

وحدة الوعي.. رادار لاعتقال المقدسيين

لا يقتصر القمع الإسرائيلي للفلسطينيين على الأحداث الميدانية المشتعلة في القدس والمسجد الأقصى، بل إنه…

3 سنوات ago