ترجمة العساس | أتمت روسيا مؤخرًا تعزيز دفاعاتها الجوية شماليَّ سوريا؛ إذ نشرت صحيفة “واشنطن بوست” الأسبوع الفائت خريطةً تقديريةً للأماكن المحتملة لنصب أنظمة الدفاع الصاروخية الروسية المختلفة، والتي تضم نظامي إس-300 و إس-400 الأحدث في ترسانة موسكو العسكرية، إضافة إلى فريق من السفن المجهزة بصواريخ مضادة للطائرات استقرت في ميناء طرطوس على الساحل السوريّ.

يصل نصف قطر نطاق التغطية الفعالة لهذه التشكيلة إلى 400 كم، أي ما يغطي مساحةً جغرافية شاسعة تضم كامل لبنان، إلى جانب أجزاء كبيرة من كلٍّ من: الأردن وتركيا وشرق حوض البحر المتوسط، وصولًا إلى ما بعد قبرص. كما تكشف هذه الأنظمة الأجواء فوق مساحات محدودة داخل حدود العراق، وكذلك “إسرائيل” حتى النقب الشمالي.

وفقًا للصحيفة؛ ما يزال من الصعب على البنتاغون معرفة مدى إمكانية اختراق هذه الأنظمة الدفاعية، فلم يُختبر ذلك في الميدان بعد. وعلى الرغم من تطوّر الأنظمة العسكرية الأمريكية، إلا أن كثافة انتشار التشكيلات الدفاعية الروسية تحُد من قدرة الولايات المتحدة على الهجوم جوًا على قواعد عسكرية تابعة لنظام الأسد. كما أنها تحدّ من إمكانية إقامة مناطق حظرٍ جوي -أو ما تعرف بالمناطق الآمنة- داخل الأراضي السورية؛ الفكرة التي يؤيدها كلا المرشحين للرئاسة الأمريكية، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب.

ينعكس تعزيز الوجود العسكري الروسي في المنطقة مباشرة على الشأن الإسرائيلي. فـ “إسرائيل”، التي دمرت سبقاً، بحسب وسائل الإعلام الأجنبية، عدة قوافل أسلحة لحزب الله في الداخل السوريّ، لن يكون بوسعها تحريك أيٍ من مقاتلاتها من قاعدة “تل نوف” الواقعة في مركز البلاد دون أن تكشفها الرادارات الروسيّة.

ومن هنا فإن قرار موسكو تعزيز دفاعها الجوّي في منطقة طرطوس يحُدّ بسهولة من نفوذ أقوى سلاح جوٍ في الشرق الأوسط، الذي تمتع بتفوّق جوّي وحريّة مطلقة في عملياته على امتداد الإقليم، وخاصة في الجبهة الشمالية -سوريا ولبنان- منذ أن دمرت الدفاعات الصاروخية السورية عام 1982.

ويذكر أن تحجيم روسيا للدور الإسرائيلي ليس من الناحية العسكرية فقط، لكنه يحمل جانباً سياسياً كذلك. فقد اضطرت “إسرائيل” التوقيع على بروتوكولات تنسيق مشترك مع روسيا تهدف إلى تلافي أي صدامات جويّة محتملة في الأجواء السورية. وجاء ذلك بعد اجتماع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أربع مراتٍ خلال هذه السنة، في سعيٍ حثيث للتوصل إلى توافق كهذا.

ففي غياب البديل، يجد نتنياهو نفسه مضطرًا إلى تحسين العلاقة بروسيا بأي شكلٍ ممكن، في علاقةٍ لا تزيد في رومانسيتها عن رومانسية تحرش دونالد ترامب بالنساء. ففي واقع الأمر، لم تستطع “إسرائيل” إلا أن تذعن لقرار موسكو تحريك قوّتها العسكرية إلى ساحة تل أبيب الخلفية، أي سوريا.

على ما يبدو، عززت روسيا من دفاعاتها الجويّة في سوريا كردّ فعلٍ على الإدانة الأمريكية للتفجيرات في حلب، ولتخوُّف موسكو من إمكانية اتخاذ أوباما خطواتٍ جديّة ضد حكم الأسد، الأمر الذي لم يعد يبدو واقعيًا اليوم. وعلى الرغم من الوضع الاقتصادي المترنح في روسيا، يبدو بوتين غير آبهٍ بذلك، فهو مستمر بالمقامرة والتصعيد؛ فمن تلميحاته المتكررة حول احتمالِ نشوب حربٍ نووية، إلى محاولات التأثير على سير الانتخابات الأمريكية، وصولاً إلى التحركات غير المتوقعة في الشرق الأوسط، كالمناورات العسكرية التي أُعلن عنها مؤخرًا بالاشتراك مع مصر.

وما تزال نوايا موسكو، التي تثير خطواتها التصعيدية المتلاحقة البلبلة في الأوساط الدولية كلّ مرة، عصيةً على التحليل. وحقيقةُ أن النشاط الاستخباراتي الإسرائيلي في روسيا آخذ بالانحسار منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، تقلل من قدرة “إسرائيل” على فهم الأهداف الحقيقية من خطط بوتين وسياسته في المنطقة.

تحاول مجلة “عِشتونوت – (أفكار)” الصادرة عن مركز الأبحاث في “معهد الأمن القومي”، تحليل حيثيات التدخل الروسي في سوريا بهدف الإجابة عن تساؤلات عدة ما تزال أجوبتها مبهمة بالنسبة للدوائر العسكرية الإسرائيلية. ففي عددها الجديد تحليل للاستراتيجيات الروسية والدروس العملية المستقاة مما يجري على الجانب الآخر من الجولان.

ويقول الكاتب إن القرارات الصادرة من موسكو مدروسة بعناية ومبنية على استراتيجياتٍ بعيدة المدى. إذ يعتبر الروس أنفسهم في خندق الدفاع عن النفس ضد العدوان الغربي في شرقيّ أوروبا (المواجهات في أوكرانيا ومحاولات الكتلة الغربية توسيع حلف الناتو) وفي العالم العربي (عمليات الناتو في ليبيا ومحاولة الغرب غير الناجعة لتغيير نظام الحكم في سوريا).

ويذكر أن التدخل العسكري في سوريا، المسمى “عملية قوقاز 3″، هو الأول لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والأوسع منذ حرب أفغانستان في الثمانينات. ويعتقد أدامسكي -الكاتب- أن الدافعَين الرئيسيين لهذا التدخل هما المحافظة على المصالح الروسيّة التي يضمنها بقاء نظام الأسد، وعلى رأسها ميناء طرطوس الذي تحتاجه روسيا في فصول الشتاء على نحوٍ خاص، ومنع تمدد نطاق عمليات منظمات الجهاد السنيّة إلى الداخل الروسي. إذ يقطن روسيا ما لا يقل عن عشرين مليون مسلم، معظمهم من السنة، شارك الآلاف منهم في الحرب في سوريا ضد نظام الأسد. وتُعد رغبة روسيا في كسر عزلتها الدوليّة التي جلبتها لها عملياتها القتالية في أوكرانيا وضمها شبه جزيرة القرم دافعًا إضافيًا لهذا التدخل.

ولكي تحافظ على مصالحها، تسعى روسيا إلى استعادة وتأمين التواصل الجغرافيّ بين المناطق التي يسيطر عليها الأسد قبل الدخول في أي مفاوضات دوليّة حقيقية. يعتمد الروس في خطتهم لتحقيق ذلك على تكتيكات حرب الشيشان الثانية، والتي تمكنت موسكو عبرها من تحقيق انتصارٍ ساحقٍ. ولذا، حسب أدامسكي، يمكن للروس التفاؤل -ولكن بحذر- بعد سنة من التدخل في سوريا، وذلك على العكس من “إسرائيل”. فحزب الله الذي هو اليوم جزءٌ من التحالف الذي تقوده موسكو في سوريا، يكتسب أفراده مهاراتٍ قتالية قيِّمة ويتشربون العقيدة القتالية السوفييتية من خلال العمل على خط النار مع الروس، ما سيمكنهم من توظيف ذلك لصالحهم لمضاعفة إمكاناتِ الحزب العسكرية ضد جيش الدفاع الإسرائيلي في أي مواجهةٍ مستقبليّة محتملة. كما أن موسكو تجاهلت تمامًا ما طلبه نتنياهو في لقاءاته ببوتين من قطعِ سبل الإمداد بالسلاح والعتاد لحزب الله عبر الأراضي السورية.

في مواجهة الانتخابات

لم تنجز خطة العمل الروسية في سوريا بعد، ولم يتمكن التحالف الروسي – السوري – الإيراني حتى اللحظة من تحقيق كلِ ما وعد به بوتين. ففي خريف 2015، توقع الرئيس الروسي السيطرة بالكامل على حلب وإدلب وشمال شرقي سوريا من خلال عملياتٍ مشتركة للطيران الروسي والقوات البرية السورية بدعمٍ من إيران في مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر. وتعهد حينها قائد كتيبة “القدس” في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، أثناء زيارته لموسكو بإرسال أكثر من ألفيّ عنصرٍ من عناصر الحرس الثوري الإيراني إلى سوريا، فعقد الكرملين الآمال على هذه العمليات لإنجاز الجزء الأكبر والأصعب من مهمة القوات الروسية في سوريا.

وبالفعل، وصلت القوّات الإيرانيّة إلى أرض المعركة؛ لكن سرعان ما أدت المشاكل التي اتضحت في الميدان إلى سحب معظم القوّات الإيرانية. وعليه اضطرت روسيا للجوء إلى خطتها البديلة التي قامت بموجبها بتوظيف سياسة الأرض المحروقة لكسر شوكة مقاتلي الفصائل المسلحة؛ فارتكبت جرائم حربٍ على مرأى من العالم دون أن تضطر لدفع أي ثمنٍ بالمقابل. وعلى الرغم من الوحشية الروسية التي تتخللها أحيانًا مبادراتٌ لوقف القتال وجولات مفاوضاتٍ دولية، لا تبدو نهاية الحرب السورية قريبة على الإطلاق.

المصدر : هآرتس http://www.haaretz.co.il/news/politics/.premium-1.3100228