مقدمة العساس | توقع العرب، أو بالأصح منّوا أنفسهم، بردود فعلٍ نارية تصدر عن قادتهم وحكامهم في إبان إعلان ترامب تنفيذه لوعده الانتخابي بالتوقيع على قرار نقل السفارة الأمريكية في “إسرائيل” من تل أبيب إلى القدس. القدس المدينة المقدسة في الديانات السماوية الثلاث برمزيتها المفرطة في الوجدان العربي لم تستثر في الحكام العرب أكثر من جملة من التصريحات “الجوفاء” التي لم تختلف عن سابقاتها التي خرجوا بها في أحداثٍ سابقة كان آخرها أزمة البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى. هل باتت المصالح الفردية للدول العربية وحكامها مقدمة على القضايا القومية التاريخية كالقدس والقضية الفلسطينية؟ أم أن الدول العربية لا تمتلك بالفعل من أدوات الضغط ما تدافع به عن مواقفها المبدئية المعلنة رغم كل ما تمتلكه من موارد وثقل اقتصادي، دبلوماسي وسياسي ديموغرافي؟

ترجمة العساس | ترى دول عربية كثيرة في الولايات المتحدة حليفًا ضروريًا لها للحفاظ على مصالحها، بينما تبقى القضية الفلسطينية معلّقة دون حل نهائي في الأفق، وأي هبّة دينية لن تكون شرارتها إعلان ترامب بل أية زيارة اسرائيلية استفزازية إلى الأقصى.

“إن تنفيذ قرار الرئيس الأمريكي ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس يمكن أن يتسبب بقطع العلاقات بين تركيا و”إسرائيل””، هذا ما توعّد به الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان، في وقتٍ حذّر فيه أحمد الطيب شيخ الأزهر – الذي يعدّ المؤسسة الدينية الأهم في مصر – من أن إعلان القدس عاصمة “لإسرائيل” سوف “يفتح أبواب جهنم على الغرب”. “الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون وسيطا عادلًا بعد اليوم في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني” هذا ما قاله أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية صائب عريقات، الذي سرعان ما أتبع ذلك باعتباره أنّ النضال منذ الآن سيكون على إقامة دولة أحادية القومية بعد اضمحلال الأمل في أن يرى حل الدولتين النور.

قوبل توقيع ترامب للقرار بتنديداتٍ من شتى دول الشرق الأوسط والعالم، بالإضافة إلى التحذيرات بل وحتى التهديدات التي أعقبت “عرضه الدرامي التاريخي”. كما يُتوقع أن تعقد دول منظمة المؤتمر الإسلامي اجتماعًا طارئًا الأسبوع القادم لبحث وسائل وقف تنفيذ القرار – الأخير الذي لم يغيّر شيئًا في العملية السياسية الغارقة في سباتٍ عميقٍ حتى قبل توقيع ترامب عليه -. وعلى ما يبدو فإنّ الكلام هو الذخيرة الوحيدة المتاحة حاليا بيد الدول العربية والإسلامية لإظهار شيءٍ من التضامن المعنوي المتبقي في جعبتهم حيال القدس. من وجهة نظر هذه الدول فإن قرار ترامب لا يغير شيئًا من الوضع الراهن للقدس، فمصر على سبيل المثال “تعبّر عن أسفها من قرار ترامب لكن ذلك لا يلزمها بشيء”، كان هذا نص الرسالة المصرية الرسمية على لسان الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي. أما البيان الرسمي للديوان الملكي السعودي فاعتبر “أنّ القرار لا يغيّر الواقع ولا يمسّ حقوق الفلسطينيين الأساسية والمحمية في القدس والأراضي المحتلّة, ولا يمكن له خلق واقعٍ جديد في الضفة الغربية. لكن ذلك يشكّل تراجعًا هائلًا في المساعي الحثيثة لتحقيق السلام”. لن يغيّر القرار شيئًا في شروط المبادرة العربية التي تشكّل جزءًا لا يتجزّأ من ملف المفاوضات. أما “قلق الدول العربية من نوايا “إسرائيل” لتهويد مدينة القدس” فسيبقى كما الحال في السابق بندًا أساسيًا على طاولة المباحثات. إن اندلاع “حربٍ دينيةٍ” محتملة لن يتسبب به إعلان ترامب، إنما زيارة استعراضية أخرى لسياسيين إسرائيليين إلى المسجد الأقصى – الذي لن يتيغير وضعه هو الآخر في الوقت الراهن -.

إن قطع علاقات مصر والأردن مع “إسرائيل” يبقى سيناريوهًا غير محتمل وغير واقعي، فعلاقات مصر و “إسرائيل” قائمة على شبكة من المصالح المشتركة العسكرية والاستخباراتية – التي لا شأن لمجملها بالقضية الفلسطينية ولا بالقدس -. تعليق السيسي الذي ورد فيه “أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيزيد عملية السلام تعقيدًا” هو مجرد تماشٍ ظاهري مع الرأي العام العربي، إن عملية السلام ليست ذات أهمية لدى الرئيس السيسي كما هو حال ملف المصالحة الفلسطينية في المقابل والتي يقع على رأس قائمة اهتماماته الإقليمية. وينبغي التنبه إلى أن ذلك لا بسبب تلهّفه الشديد للمصالحة في حد ذاتها بل لأن المصالحة من شأنها توفير هدوءٍ على الحدود بين قطاع غزة وسيناء، هو في أمس الحاجة له اليوم لإزاحة المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن حصار غزة من على أكتاف مصر. الرئيس السيسي ليس ساذجًا، وهو يدرك أن مسألة القدس ليست العامل الوحيد الذي يمكن أن يُحيي أو يُميت عملية السلام. لقد عرف جيدًا طبيعة القيادة الإسرائيلية، وسفيره في تل أبيب يرسل له تقارير دورية عن مدى احتمال التوصل لاتفاق السلام المنشود في فترة حكم نتانياهو.

لقد تعب الجمهور المصري من الخروج في مظاهراتٍ لأجل الشعب الفلسطيني، فحتى الوضع المشحون والإحتجاجات الأخيرة في المسجد الأقصى لم تجعله يخرج عن صمته. من الممكن أن تخرج في الأردن مظاهرات منددة، وسمعنا مؤخرًا في البرلمان الأردني الأصوات ذاتها التي تطالب بين الحين والآخر بقطع العلاقات مع “إسرائيل”، لكن بنظر الملك الأردني هنالك أسباب جيدة للإبقاء على التعاون العسكري مع الدولة اليهودية؛ الأردن تخشى– كما “إسرائيل” – التهديد الإيراني المحدق بعمّان على حدود المملكة مع سورية. في كلتا الدولتين، “إسرائيل” والأردن، يعلمون أن قطع العلاقات الثنائية بينهم هو عقاب لترامب عبر الأردن أكثر منه عبر “إسرائيل”، أي أن عقاب ترامب عن طريق مقاطعة “إسرائيل” ما هو إلّا كيد مرتدّ على الأردن.

وبالحديث عن تركيا، من الصعب التنبؤ بردود أفعال الرئيس التركي إردوغان الذي يخرج في كل مناسبة ليندد بأفعال وتصريحات ترامب. فإردوغان يترنّح ما بين مطالبته للولايات المتحدة بتسليمه فتح الله غولن, الداعية الإسلامي الذي يتهمه إردوغان بتدبير الإنقلاب الفاشل ضده السنة الفائتة، وبين استنكاره لمحاكمة الولايات المتحدة لرجل الأعمال الإيراني التركي، رضا ضراب، الذي أقرّ بمشاركة وزير الإقتصاد التركي السابق ومسؤولين كبار في البنك المركزي التركي بتبييض الأموال وبالالتفاف على العقوبات المفروضة على إيران. هذا التخبط – أو الحيرة بين متناقضين – يمكن أن يكون مدمرًا لإردوغان، خاصة إن ظهرت للعلن وثائق تثبت صلة أسرة إردوغان بعمليات تبييض الأموال التي تتمحور حولها القضية. ليس ذلك وحسب، فإردوغان يقود أيضًا حربًا إعلامية وسياسية ضد التحالف الأمريكي العسكري مع أكراد سوريا الذين نجحوا في التصدي لداعش. وقد يكون إعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة “لإسرائيل” فرصة إردوغان التي انتظرها طويلًا لإعلان الحرب ضد الولايات المتحدة لكن تحت غطاء تحالف إسلامي ركيك. وفي حين أن إردوغان قد يكون غاضبًا بالفعل حيال قرار ترامب، ستكون خطواته المقبلة على الأرجح هادفة لضرب عصفورين بحجرٍ واحد، لا ردَ فعلٍ مباشر للقرار الأخير المتعلق بالقدس وحسب. فلو تدهورت الأمور للحد الذي تقطع فيه تركيا علاقاتها “بإسرائيل” أو الولايات المتحدة، فسيكون ذلك بتأثير أيضًا من الرسائل التي تلقاها الرئيس التركي من السعودية وروسيا.

لقد انتقى ترامب كلماته بغاية الحذر، فبات من الصعب الادعاء بأن خطابه اشتمل على تحريضٍ صريحٍ يثير الغضب الإسلامي، فقد صرّح بأن وضع المسجد الأقصى سيبقى على حاله ولم يتطرق إلى مسألة حدود مدينة القدس. فلم يوجد ما يوحي بأنه يعترف بالأراضي التي ضمّتها “إسرائيل” إليها، حيث أبقى خطابه الوضع النهائي لمدينة القدس معلّقا بنتائج المفاوضات الإسرائيلية والفلسطينية.

ليست الانطباعات التي تركتها صيغة القرار الأمريكي هي التي ستحدد ماهية الرد الإسلامي على خطوة اعتراف ترامب بالقدس عاصمة “لإسرائيل”، فالمحدد لذلك سيكون على الأرجح تناقض الإعلان في ذاته عن مع ما جاء في القرارات الأممية على مدى 70 سنة مضت. إن حلبة الصراع من المرجح أن تنتقل في الأيام القادمة إلى داخل قاعات مجلس الأمن و الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث سيطالب الفلسطينيون ومن خلفهم الدول العربية بتنفيذ مضمون قرار العام 1949. وسيكون ذلك نضالًا صعبًا، فالولايات المتحدة الأمريكية تستطيع استعمال حق النقض “الفيتو” كم أن صلاحية قرارات الجمعية العامة ليست طويلة الأمد. لا تمتلك الدول العربية الأدوات المناسبة لإعلاء ودعم مطالبها، لكنها تستطيع العمل بشكل فردي مع بعض الدول المؤثرة مثل بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، روسيا، الدول الإسكندنافية ومجموعة دول أمريكا الجنوبية. حيث أنّ أغلبهم عبّروا عن معارضتهم لقرار ترامب. لكن تبقى المشكلة مع بعض الدول الهامشية مثل كينيا، رواندا وأوغاندا “أصدقاء” “إسرائيل” الجدد، والفيلبين التي أعلن رئيسها القاتل عن نيّته نقل سفارة بلاده إلى القدس، ما إذا قررت فعلًا الإقدام على مثل هكذا خطوة ورفع أعلام “إسرائيل” في القدس.

ليس في جعبة الدول العربية الكثير لتقدمه حيال مسألة مصيرية كمسألة القدس في ظل الظروف التي تعانيها خاصة منذ الربيع العربي. تحالفات جديدة أقيمت بين دول عربية و قوى عظمى في العالم، ودول عربية تحارب دول عربية أخرى وتفرض عليهم الحصار مثل الحرب السعودية الإماراتية على اليمن، أو المقاطعة التي فرضتها ثلاث دول خليجية بالإضافة لمصر على قطر. الخطر الجديد الذي يخشونه هو إيران، حتى أنهم يعتبرونه التهديد الأكبر اليوم مقارنة بتهديد الجماعات المسلّحة مثل داعش.

الدول عربية التي قادت نضالاتٍ سياسية في الماضي مثل مصر وسوريا والعراق، لا تستطيع اليوم القيام بأي تحركاتٍ جديدة، وحتى السعودية التي تعتبر القائد العربي الجديد منيت بخسارة تلو الأخرى في كل مرة حاولت فيها فرض تحرّكاتٍ معيّنة على دول مجاورة. وحتى إن نجحت بعض الدول العربية في الماضي في تحقيق بعض المكاسب السياسية عبر ألعابٍ ملتوية بينها وبين أمريكا والإتحاد السوفييتي فإن الواقع اليوم مختلف كليًّا. فروسيا احتلت موقعًا مؤثرًا في المنطقة كانت الولايات المتحدة تشغله لمدة من الزمن وجردت الأخيرة من أدوات التأثير، والدول الأوروبية تأخذ مقعد المتفرج مبتسمة من بعيد في حين أن الولايات المتحدة تتجاهل متعمدة الالتفات إلى مطالب زعماء عرب مثل الملك السعودي والرئيس المصري والعاهل الأردني، زعماء دولٍ ما تزال تعتبر الولايات المتحدة حليفها الأكبر. إيران وكما هو متوقّع نددت بقرار ترامب، لكنها في ذات الوقت سعيدة وهي تراقب الولايات المتحدة الأمريكية تحتك وتتشاحن مع حلفائها الإقليميين وعلى رأسهم السعودية.

تكمن السخرية في أنه ورغم غضبها من قرار ترامب، ستستمر الدول العربية وأغلب الدول الإسلامية في التعامل مع الولايات المتحدة على أساس أنها حليف قوي بهدف المحافظة على مصالحهم. وستبقى القضية الفلسطينية موضوعًا يستغله العرب لتنشيط علاقاتهم بالولايات المتحدة بين الحين والآخر.

المصدر: https://www.haaretz.co.il/news/politics/.premium-1.4674085