تتمحور غالبية الأخبار حول موضوعين: أشخاص يحاربون للحفاظ على سمعة “إسرائيل” الإيجابية، وآخرون يحاربون العنف والظلم في الدولة. لقد تحول تراشق الطين بين اليهود أنفسهم إلى مشهد اعتيادي يحصل أمام عيون الإسرائيليين واليهود في العالم، وسوف نتحدّث هنا عن العبودية في الضفة الغربية.

في الحقيقة، المحاربون لأجل سمعة “إسرائيل” الإيجابية لا ينتبهون إلى نقطة مهمة وهي:  أنّ من ينتقد “إسرائيل” في الولايات المتحدة هم يهود. المبادرون في المقاطعة هم أشخاص أكاديميون معتبَرون مثل: جوديث باتلر، وجاكلين روز، ولاري جروس؛ وجميعهم يهود. إذا تمّ اختيار “إسرائيل” دون دول العالم لتكون صاحبة أسوأ سجلّ فيما يخص حقوق الإنسان، فسيكون السبب هو الإحساس بالخجل الذي يشعر به العديد من اليهود في العالم الغربي تجاه الدولة وسياساتها.

معسكرات الشعب اليهودي

يبدو أنّ الشعب اليهودي قد انقسم إلى معسكرين متباينين: الأول يطيع الأوامر على شاكلة “أمن إسرائيل” و”الهوية اليهودية”؛ بالمقابل، يعتبر الثاني حقوق الإنسان والحرية جزءًا جوهريًا من هويته. إنّ هذه سخرية تاريخية من الدرجة الأولى: إنّ “إسرائيل” هي من قسّم الشعب اليهودي إلى معسكرين يحملان تصورين أخلاقيين مختلفين بالمطلق حول اليهود والإنسانية.

صراعات قليلة جدًا عبر التاريخ تمحورت حول جدل أخلاقي بشأن تعامل مجموعة أو دولة ما تجاه مجموعة ثالثة من الأشخاص؛ مع ذلك، فإننا نعرف حالة واحدة مشهورة تاريخيًا، ألا وهي حركة إلغاء العبودية في أمريكا.

ليس الهدف وراء استخدام هذا المثال هو الادعاء بأن العبودية والاحتلال هما ذات الشيء؛ إنهما مختلفان بشكل كبير، لكنّ انقسام الشعب اليهودي على خلفية ادعاءين أخلاقيين يتعلقان بالتعامل مع الفلسطينيين؛ هو مكمن التشابه بينهما. هناك خطوط تشابه هنا وهناك؛ ولهذا السبب سأستخدم هذا المثال كاستراتيجية للتفكير.

لقد اتضح أنّ إلغاء العبودية في القرن التاسع عشر مهمة صعبة في الولايات المتحدة، بسبب الأيدولوجية الداعمة للعبودية، والتي انتشرت في كتب التعليم والخطابات السياسية ومواعظ الكنائس وغيرها. حين تسيطر مجموعة بعينها على الموارد، فإنها تبرر سيطرتها على مجموعة أخرى بواسطة الأيدولوجية (أقوال تضفي مظهرًا شرعيًا لأفعال المجموعة المسيطرة). وتبدأ الأيدولوجية بالتغلغل لتكون حاضرة في المساحات المختلفة (في كتب التعليم وفي السياسية والصحف) لتتحول إلى نهج تفكير أوتوماتيكي نفسر الواقع بواسطته.

العبودية في الضفة الغربية شكلٌ من أشكال التسلّط

إنّ العبودية أكثر الأشكال تطرفًا في السيطرة على البشر؛ إذا شكّل الإنسان آليات حرمان لإنسان آخر من حريته وحياته، فإنّ الإنسان ليس عبدًا إنّما واقع في ظروف العبودية. فالعبودية ليست فقط تحويل الإنسان إلى سلعة قابلة للتداول؛ بل هي أيضًا مجموعة الظروف الاجتماعية التي تحوّل وجوده إلى متعلق برغبات، إرادة وقوة إنسان آخر.

يعتبرالإسرائيليون علاقتهم بالفلسطينيين “مواجهة عسكرية” فقط، وينتج عن ذلك نتائج منطقية وأخلاقية وسياسية: الفلسطينيون “جنود” وليسوا مواطنين، أعداء يجب إخضاعهم، وهم يشكلون خطرًا على “إسرائيل”.

وعلى الرغم من أنّ الاستعارة العسكرية تمنح العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين معنى، إلّا أنّها تحجب حقيقة مزعجة: فالعلاقة التي بدأت كمواجهة عسكرية تحولت إلى سيطرة على الفلسطينيين، وباتت تشبه ظروف العبودية، ومنها العبودية في الضفة الغربية، إذا فهمنا العبودية كحالة وجودية لا كملكية للجسد البشري، فإنّ السيطرة التي تُسقِطها “إسرائيل” على الفلسطينيين هي ما أُطلِق عليه “حالة العبودية”.

الاعتقالات اليومية و العبودية في الضفة الغربية

الاعتقالات اليومية، تحت ذريعة “الأوامر العسكرية”، هي عرقلة لحياة العديد من العائلات وإجبارهم على العيش في خوف دائم تحت تهديد الأسر، إضافةً لاعتداءات المستوطنين، واعتقال الأطفال، واستخدام المواطنين كـ”درع بشري”، وفرض عشرات الحواجز، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت؛ جميعها يعطي الانطباع العام بأنّ 70% من الفلسطينيين يعيشون مع إحساس دائم بالاحتقار والخوف من “الإرهاب” والعنف الإسرائيلي.

إن عددًا كبيرًا من الفلسطينيين تخضع حريتهم، وكرامتهم، وقدرتهم على العمل وغيرها لرغبة الأسياد الإسرائيليين؛ هذه الظروف لا يمكن إلا أن نسميها ظروف العبودية.

من دون قصد، تحوّل الإسرائيليون إلى أسياد مسيطرون. والسؤال هنا: لماذا لم يعد ينزعج العديد من اليهود داخل “إسرائيل” وخارجها من هذا الأمر؟ السبب في ذلك يعود إلى أنّ “إسرائيل” تملك لوبي خاص داعم للعبودية، يتواجد اليوم في باحات السلطة؛ وقد نجح هذا اللوبي في إظهار الاحتلال كثمن لأضرار الحرب وبناء الأمة. لقد تحوّل هذا الخطاب إلى فكرة سائدة، وبقى علينا أن ننتبه إلى مدى تشابهه مع أيدولوجية داعمي العبودية.

اقرأ أيضًا.. لقاء عمّان السري: احتلال فلسطين الدبلوماسي

إنّ ظروف معيشة الفلسطينيين تحت الاستعباد حال دون تحول الصراع إلى مواجهة عسكرية. لقد أضافت اسرائيل إلى المشهد كارثة إنسانية أدت إلى نشوء “حرب أخلاق”، وخلقت شرخًا غير قابل للتجسير داخل الشعب اليهودي.

والسؤال هنا يتعلق بالصعوبة المتصاعدة في صياغة لغة أخلاقية لفهم الاحتلال. إذا كانت العبودية قديمًا مُعرّفة كعبودية لدى الجميع، فإنّ ماهيّة الاحتلال لا تزال غير واضحة، ولا نعرف ما هو. حين نعرّفه، نحن الإسرائيليون، فإننا لا نرى ما يرى العالم. ترى “إسرائيل “الفلسطينيين مخربين، ويرى العالم شعبًا ضعيفًا مسلوبًا. يرى العالم دبابات عسكرية ضد عديمي البيوت، لكنّ “إسرائيل” تعتبر هذه الاستنكارات كراهية نفسيّة أو لا سامية. يريد العالم حلًا عادلًا، وتعتبر “إسرائيل” المطالبة به تهديدًا لوجودها.
من هذا المنطلق، فإنّ النقاش الذي قسّم الشعب اليهودي هو أكثر تعقيدًا منه حول العبودية، فهناك خلاف حتى حول اسم مشروع السيطرة في الضفة. “إسرائيل” تجد نفسها في موقف محرج أكثر، لأنها لا تدرك بأنها متورّطة في مشروع لا يمكن تبريره. إنّ “إسرائيل” تبتعد بشكل خطير عن القاموس الأخلاقي، وبرفضها التكلم بهذه اللغة تحدد مصيرها بنفسها، ألا وهو مصير العزلة.

المصدر: هآرتس

رابط المصدر: http://www.haaretz.co.il/magazine/the-edge/.premium-1.2236126