مقدمة العسّاس | احتفاء الإعلام العبري الكبير بـ شمعون بيريس وذكر مناقبه بعد وفاته خريف العام 2016 أتى على حساب السرد الموضوعي لمسيرته السياسية. بيريز الوزير ثم رئيس الوزراء وأخيرًا الرئيس لم يكن المثال الأفضل لرجل الدولة. فبرغم اعتباره الأب الروحي للنووي الإسرائيلي وعراب السلام الزائف -وحصوله على جائزة نوبل للسلام، حفلت مسيرته المهنية بإخفاقات من العيار الثقيل كادت أن تطيح بعلاقة “إسرائيل” بأقرب حلفائها.

ترجمة العسّاس | في سنوات السبعينات والثمانينات كان شمعون بيريس شريكًا في سلسلة الإخفاقات التي خلّفت أزمة ثقة عميقة مع الأمريكيين. هل كان ذلك ما دفعه لمحاولة لإرضائهم بأي ثمن؟

تزامنًا مع وفاة شمعون بيريس، نُشرت عدة مقالات وكتابات سلّطت الضوء على جوانب غير عادية، جميلة ورومانسية من شخصيته، إضافة إلى مكانته السياسية المرموقة التي اكتسبها خلال السبعين عامًا من العمل في الشأن العام. ركزت معظم المواضيع على جوانب مرتبطة بالبرنامج النووي الإسرائيلي وأوسلو، وتناولت بعضها باقتضاب نهج بيريس ما قبل انضمامه إلى مُعسكري اليسار والسلام.

سنتطرق هنا إلى عدة أمور وقضايا تجاهلتها وسائل الإعلام، رغم أهميتها، فهي تفسر سبب التغيّرات الجوهرية التي طرأت على أسلوب بيريس تدريجيًا خلال فترة الثمانينات.

صواريخ بيرشنج

تتعلق القضية الأولى بفترة توليه وزارة الدفاع في حكومة رئيس الوزراء “إسحاق رابين” التي تشكلت في يونيو/حزيران من عام 1974. ففي العام نفسه وخلال زيارة بيريس لواشنطن عقب حرب الغفران، قدم الإسرائيليون قائمة بطلبات التسليح إلى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تضمنت صواريخ “بيرشنج” القادرة على حمل رؤوسٍ نووية إلى مدى يتعدى بكثير دائرة التهديدات المحيطة “بإسرائيل”. ردة فعل الأمريكيين على هذا الطلب كانت مزيجًا من الذهول والسخرية، فطلب من هذا القبيل زعزع ثقة الأمريكيين في “إسرائيل” وأدّى إلى توتر في العلاقات حكومتي البلدين طوال فترة حكم رابين حتى العام 1977.

لو أن “إسرائيل” حصلت على صواريخ البيرشنج تلك لكان ذلك بمثابة الإعلان الصريح عن امتلاكها السلاح النووي، الأمر الذي لم يرق للأمريكان على الإطلاق. هذا الطلب المتهور كان بحسب بيريس بمشورةٍ من وزير الدفاع السابق “موشيه دايان“؛ دايان الذي اتضحت لاحقًا علاقته المباشرة بخطة إنقاذ الرهائن  في عنتيبي (عملية جوناثان في أوغندا صيف 1976). تكشف المصادر أن بيريس لطالما حظي بمباركة دايان ودعمه، فما دام دايان على قيد الحياة –وقد توفي عام 1981- كان بيريس سيبقى الفتى المدلل.

طوال سنين، بقيت مصادر المنشورات التي تناولت هذه القضية مبهمة غير معلن عن هوية أصحابها، إذ أنها سلطت الضوء على السلوك الأرعن لبيريس الأب الروحي للنووي الإسرائيلي، الأمر الذي كان محرمًا في المجتمع الإسرائيلي حينها.

وكأن معضلة صواريخ البيرشنج لم تكن كافية لبيريس ليتعلم الدرس، فقد خرج من حقبة الثمانينات مُثقلًا بأوزار
مجموعة أخرى من الخطايا السياسية الفادحة التي ارتكبتها إدارته وأدت في نهاية الأمر إلى فشل كبير في العلاقات
بين “إسرائيل” والولايات المتحدة؛ سلسلة من الأخطاء خلّفت أزمة ثقة بين البلدين كانت الأعقد منذ سنوات.

فضيحة الجاسوس بولارد

الخطيئة الأولى كانت قضية عميل الموساد الأمريكيّ جوناثان بولارد، إذ كان هناك الكثير من المسؤولين عنها في
“إسرائيل”، والكثير غيرهم ممن ساءت علاقتهم بالولايات المتحدة بسببها. لكن الأهم أن شمعون بيريس كان رئيس
الحكومة عندما قُبض على بولارد في نوفمبر عام 1985. ودون الخوض في تفاصيل القضية التي باتت معروفة
اليوم، نذكر أن الأمور تطورت في حينه بشكلٍ أضرّ بالثقة بين الحليفتين “إسرائيل” والولايات المتحدة. فإن
“إسرائيل” لم تكتفِ بتوظيف بولارد لصالحها، بل ادّعت أن القضية برمتها مختلقة من قبل الأمريكان ولا تتجاوز
كونها عملية تصفية حسابات حزبية بين الجمهوريين والديمقراطيين.

الإدارة الأمريكية بدورها لم تكن على يقينٍ عما إذا كان شمعون بيريس يعلم بتجنيد بولارد وطبيعة عمله أو أن رافي
إيتان – المسؤول في الموساد- هو فقط من يعلم بذلك. ومع أنّ لجنة التحقيق برئاسة “أبا إيبان” أكدت عدم معرفة
شمعون بيريس بالعملية، إلا أنّ مسؤولين كبار لمحوا إلى اطلاع النخبة السياسية الإسرائيلية في حينه على تفاصيل
العملية؛ كما أن الوثائق التي نشرت على مدى السنوات تؤيد هذا الطرح.

شمعون بيريس وفصيحة إيران كونترا

مثلت فضيحة ايران-كونترا الخطيئة الثانية لبيريس، فهو من دفع “إسرائيل” للتورط في هذا المستنقع القذر، الأمر
الذي أدهش الجمهور الإسرائيلي الذي لم يستوعب كيف يمكن “لإسرائيل” أن تزود الإيرانيين بأحدث الأسلحة
الأمريكية، بل وتقدم لهم المال في سبيل دعم ميليشيات الكونترا التي عملت من أجل إسقاط النظام الشيوعي الموالي
للسوفييت في نيكاراغوا. بقيت هذه الفضيحة الدولية ملازمة لبيريس طيلة مشواره السياسي.

شمعون بيريس وخطّ 300

يُضاف إلى ذلك تورط بيريس بشكل مباشر في فضيحة عملية “خط 300” التي كان الشاباك بطلها، وذلك بحسب ما
كشف عنه الباحث “غيدي فايتس” في تحقيقه المنشور على موقع صحيفة هآرتس. حيث كشف غيدي أن بيريس حمى
عناصر الشاباك المتورطين في الفضيحة من المحاسبة و أدلى بمعلوماتٍ أمام لجنة التحقيق من شأنها أن تنسف علاقة
“إسرائيل” بالعديد من الدول وتجعلها وقادتها عرضةً للملاحقة القضائية إن خرجت للعلن.

من هنا وفي ضوء كل هذه الفضائح، يغلب على العديد من المراقبين الاعتقاد بأن العلاقة بين بيريس و الإدارة
لأمريكية وصلت إلى طريقٍ مسدود في مرحلةٍ ما من عقدي السبعينات والثمانينات. الأمريكيون نالهم ما يكفي من
خذلان من طرف بيريس، والعديد غيره من المسؤولين الإسرائيليين العاملين في إدارته ، “فإسرائيل” بجهازَيها الأمني
والسياسي لم تتردد في خداع الولايات المتحدة مراتٍ عدة، بل وحتى الإضرار بها أحيانًا، لتحقيق مكاسب آنية على
حساب العلاقة بين الحليفتين. ونتيجة لذلك لم تكن العلاقة بين مؤسستي البلدين الحاكمتين في حينه في أفضل حالاتها.

إحدى العبر المهمة المستفادة من مسيرة بيريس هي موضوعية التساؤل حول ما إن كان على بعض القادة السياسيين
التنحي جانبًا في مرحلة ما من حياتهم، خاصة من كانوا منهم على القمةَ يومًا من الأيام. فإبان عقد الثمانينيات، بات
بيريس مشلولًا من الناحية السياسية؛ كانت لديه الرغبة في إتمام ما لم ينهِه وأن يكفر عن بعض أخطائه وسعى جاهدًا
ليبقى حاضرًا في المؤسسة السياسية العالمية. رغبته الجامحة في الاستمرار رغم فقدانه لجميع مقومات رجل الدولة
جعلته السياسي الإسرائيلي الذي يتخذ قرارات غير موزونة بل وربما خطيرة.
توقع الكثيرون انسحاب بيرس من العمل السياسي ما بين عامي 1992 و1996 عقب تغلبه على نتنياهو، فنصر
انتخابي كذاك كان بمثابة الخاتمة الأفضل لمسيرته السياسية المتخمة بالإخفاقات؛ لو فعل فعل بيرس ذلك لبدت الأمور
بشكل مختلف.

المصدر : http://bit.ly/2ixHiC7