مقدمة العساس | بعد تخطيط واستعداد صهيوني طويل لاحتلال فلسطين، يبدو أن الخطوة الأصعب لم تكن إقامة “دولة إسرائيل”، بقدر صعوبة بقائها في أرضٍ محتلة جديدة دون دعم من مصدر اقتصادي داخلي ومستمر، كان مصدر الدعم هو الصندوق القومي اليهودي ، مع معرفة أن تدفق الأموال والدعم البريطاني لن يدوم إلى الأبد


ترجمة العساس | اعتمدت الطريقة الأساسية التي انتهجتها حركة العمّال لتحقيق الاستعمار الصهيوني على مبدأين أساسيين: امتلاك الأراضي وتوظيفها من جهة،  وتنظيم سوق العمل من جهة أخرى. وألقيت مهمة تطبيق ذلك على عاتق مؤسستين: الصندوق القومي اليهودي والنقابة.

كانت تلك هي الطريقة المفضلة لحركة العمّال ذات التوجه الاشتراكي الاستعماري قبل قيام الدولة، والتي استمرت لسنوات طويلة بعد قيامها عام 1948، إذ دعمت الحركة الهجرة اليهودية الجماعية إلى البلاد بشكل كبير، ووجهت القادمين الجدد لخدمة القضايا الوطنية، أهمها احتلال الأرض والعمل. وبحسب خبير الاقتصاد، أفرايم كليمان، فإن سبب نجاح حركة العمّال هو قدرتها على الربط بين احتياجات المواطنين والأيديولوجية السياسية وتوحيدهما معًا بهدف تحقيق الاستعمار.

الصندوق القومي اليهودي وتطوير الاقتصاد

ومن أجل تطبيق المبادئ أعلاه، كان على الحركة أن تسعى جاهدة لتطوير البلاد اقتصاديًا، وتوفير مستوى معيشة عالٍ لتشجيع الهجرة اليهودية إلى البلاد. في بادئ الأمر، استطاعت الحركة تجنيد الأموال المطلوبة بفضل مساعدات خارجية من يهود الشتات، وقروض دولية أخرى. وبعد بدء تحقيق الأهداف، أطلق كثيرون لقب “الثورة” على الصهيونية في البلاد، وذلك بفضل تلك المبادئ وأسلوب تطبيقها الذي انتهجته حركة العمّال ومؤسساته.

وبحسب يوئيل مجدال، فإن “إسرائيل” عُرفت كدولة قوية ذات تجربة ناجحة في سياسة التطوير الاقتصادي، بخلاف الدول الوليدة بعد الحرب العالمية الثانية، إذ نجحت في دمج الأهداف الوطنية والاستعمارية بفرض سلطتها على التوجهات الاشتراكية والعسكرية، مما أعطاها استقلالية وحكمًا ذاتيًا، وهو نموذج أثبت نجاحه لفترة طويلة بعد قيام الدولة.

اقرأ أيضًا.. كيف امتلك الصندوق القوميّ أراضي الدولة؟

ولم يعرقل حركة العمّال أية مبادرات شخصية قبل قيام الدولة، لكنه اشترط تركيز الاهتمام بتوظيف العمّال اليهود. وبعد قيام الدولة، قامت الحكومات المتعاقبة (تحديداً الحكومات التي ترأسها حزب العمل) بدعم الاستثمارات الشخصية، بالإضافة للاستثمارات العامة والنقابية، بهدف توفير أكبر عدد ممكن من فرص العمل للشعب اليهودي.

وعليه فإن النجاح المستمر للحزب كان بفضل قدرته على التحكم بسوق العمل والأراضي، تمامًا كما تحكم برؤوس الأموال القادمة من الخارج، بالإضافة للسيطرة على العملة الأجنبية، لتتحول دولة “إسرائيل” بذلك لمستورد رأس المال الأكبر (بواسطة سندات ادخار معفاة ضريبيًا والتي أُصدرت في الولايات المتحدة، أو بواسطة أموال التعويضات الألمانية عن المحرقة النازية)، الأمر الذي زاد من قوتها وقدرتها على تطوير اقتصادها.

وبعد عام 1948، قامت حكومات حزب العمل المتعاقبة بالسيطرة على تقسيم رأس المال والتحكم به، الأمر الذي أثر بشكل جوهري على بناء الدولة لاحقـًا. وبالرغم من الاعتماد الأساسي على الدعم المادي الخارجي لبناء وتطوير الدولة، فإن تكوين رأس المال الداخلي بواسطة الإنتاج المحلي وتسويقه خارجيًا ضاعف من تأثير قوة الدولة وسيطرتها اقتصاديًا في الداخل والخارج.

ركائز رأس المال الإسرائيلي الداخلي

إن المصادر الرئيسية لتكوين رأس المال الداخلي في “إسرائيل” كانت الاستثمارات في المشاريع الداخلية بالإضافة للادخارات الشخصية التي أودعت في صناديق التقاعد أو الادخار. وهنا يذكر أن صناديق الادخار أقيمت خلال حقبة الانتداب البريطاني، وأُديرت بواسطة النقابة. تلك الصناديق ساهمت بتسخير قسم كبير من المدخرات الشخصية لاستثمارات في مشاريع مصادق عليها من قبل الدولة. بالمقابل، طالبت الدولة باقي مؤسسات الادخار (كصندوق التقاعد وشركات التأمين) بالمساهمة في المشاريع التطويرية على المدى البعيد.

يمكن تشبيه تكوين رأس المال الداخلي بحلقة متصلة تتجسد باستخدام الدولة لأموال صناديق التقاعد وصناديق أخرى تابعة للنقابة، من أجل منح القروض للمستثمرين من القطاع العام والخاص، والذين استثمروا بدورهم تلك الأموال لتنفيذ مشاريع صادقت عليها الدولة.

ضرورة التصدير

كان للسيطرة على رأس المال الداخلي من قبل الحكومة الكثير من الأبعاد والمنافع، أهمها منع قيام سوق مالي حر وعشوائي. كما سهّل على الحكومة تنفيذ مصالحها السياسية والتي كانت تتوافق مع المبادئ الدولية من الناحية الاقتصادية. ساعدت تلك السياسة أيضًا بتقليص الخلافات بين النخبة السكانية صاحبة رأس المال، والمسيطرة اقتصاديًا في الدولة، وبين التوجهات السياسة لحزب العمل، وعليه طبقت تلك السياسة دون خلافات. وبعد الانتهاء من
استخلاص الممتلكات الزراعية المملوكة بالغالب للاجئين فلسطينيين، ركزت الدولة على تطوير الإنتاج الصناعي المحلي كمصدر تمويل داخلي وأساسي، لذلك توجب عليها مضاعفة التصدير للخارج.

كان للصراع اليهودي-الفلسطيني، لا سيما بعد عام 1967، والتصعيد الذي عقبه، أثر هام في زيادة الاستثمارات والاهتمام بشكل أكبر بالصناعات العسكرية والحربية. مع الوقت، أخذ هذا المجال الصناعي بالتطور بشكل ملحوظ حتى بات أحد أهم قطاعات التصدير، كما ساعد على تعزيز التعاون في الإنتاج بين إسرائيل ودول أخرى، مما دعم مكانتها دوليا ًوزاد من إدخال العملات الأجنبية إلى البلاد.

في بداية الثمانينات، استمرت الرقابة على الأموال والسيطرة عليها من قبل النخبة السياسية في الدولة، والتي كان يمثلها حزب العمل، لكن ازدهار الصناعة العسكرية وارتفاع نسب تصدير منتجاتها أدى مع الوقت إلى زيادة في الضغوطات والانتقادات لدور الدولة في السيطرة على رأس المال الداخلي، وتدخلها الكبير بسوق المال والاقتصاد، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف لإضعاف تلك السيطرة، حتى انقطعت العلاقات الوطيدة بين المجالين السياسي والاقتصادي بشكل شبه تام. بتلك الطريقة تم الإطاحة بالنظام المؤسساتي لحزب العمل وإضعافه بشكل بارز.

المصدر : كتاب “מיהו ישראלי”- Being Israeli