مقدمة العسّاس| الاستعمار بمفهومه العام هو سيطرة دولة مهيمنة على دولة أخرى أضعف، من أجل النُفوذ واستغلال الموارد، ويكون بأجندة منظمة وبتطبيق عسكري منذ البداية، ويتشابه الاستعمار ويختلف في عدة جوانب مع الاستيطان الصهيوني، باحتوائهما لخلفيات متعلقة بأحداث تاريخية امتدت إلى الحاضر.

يعرض هذا المقال الفرق الأساسي بين الاستعمار والاستيطان الصهيوني في بدايته، وأن بداية احتلال فلسطين لم تكن تقليدية، ويكشف التناقضات في مفهوم الصهيونية الحالي وما كان عليه عند تأسيسه.

 

ترجمة العسّاس| اختفت من العالم طرق الاستعمار الكلاسيكية بعدما انتقل روّاد هذا المجال منذ زمن بعيد إلى استعمال طرق ملتوية لإبقاء نفوذهم واحتلالهم، كما فعلت أميركا أكثر الدولة الإمبريالية الأكثر عدوانية، حيث تتستّر الآن وراء حكومات محليّة في العراق وأفغانستان.

لكن لدى “إسرائيل” أو الكيان الصهيوني خصوصيّة تاريخية مشوّهة بكونها الكيان الوحيد في القرن الـ 21 الذي لا يزال يستعمل ذات الطرق الاستعمارية الكلاسيكية، ورغم محاولتها مواكبة حداثة الاستعمار عبر إبرام اتفاق أوسلو، تنصلت “إسرائيل” منه عندما تبيّن لها نيّة الفلسطينيين بإقامة دولة مستقلة.

وبعد اتهام الفلسطينيين بإفشال أوسلو، استمرت “إسرائيل” حتى الوقت الحاضر بسياسة الاحتلال العسكري المباشر وقد كثّقته بمرور الزمن، وواجهت المقاومة الفلسطينية وقادتها بالكثير من الاغتيالات والقتل والاعتقال لآلاف المقاومين والمواطنين الفلسطينيين، ثم أقامت الحواجز عند مدخل كل مستوطنة، وأمنت كل هذا بتشييد جدار الفصل الذي جنّدت خلفه جيشًا ضخمًا من العملاء، بهدف البناء الاستيطاني والتكثيف السكاني والعمراني للمستوطنات القديمة، ومواصلة سلب ومصادرة الأراضي، والسيطرة على مصادر المياه.

ورغم ميل الرأي العالمي نحو شجب الاحتلال والاستعمار التقليدي، تواصل “إسرائيل” سيطرتها على الأرضي المحتلة، وعندما تتراجع أحيانًا قليلة تحت ضغط المقاومة الفلسطينية، تعود لتزيد استيطانها في الضفة الغربية كمكافأة لإخلائها قطاع غزة من المستوطنين بخطة فك الارتباط الأحادية “الإسرائيلية” عام 2005، وهذا ما أكده نائب بلدية القدس يارون بن بنيتشي، في مقابلة له مع صحيفة “هآرتس” أنّ شارون كان يريد إبقاء فقط 8% من فلسطين للفلسطينيين.

وبنظرة معمقة، هناك اختلاف بين الصهيونية والاستعمار، فالأولى تستمد قوتها من روح الشعب الصهيونية المبنية على أسس علمانية وأخرى دينية أهما “تخليص الأرض”، و”الهجرة”، و”تجميع الشتات اليهودي”، و”إعمار الأرض”، ويظهر هذا الفرق بشكل أكبر بتشديد الأيديولوجيا الصهيونية على الفرق بين الاستيطان الذي يُعمّر ويطوّر، وبين الاستعمار الذي يحتل الأرض ويستغل السكان ويهجرهم.

الاستيطان “الإسرائيلية” ومنذ بدايته تعرض للاتهامات والتوصيف بالاستعمار، الأمر الذي تم مواجهته من قبل جبهة الدفاع الأيديلوجية بـ “خصوصية الحالة الصهيونية” التي لا يوجد مثلها في التاريخ المعاصر، ولذلك لا يجب مقارنتها بأي حالة أخرى.

هنا يعلو السؤال، إن لم يكن هنالك ما يمكن مقارنته، كيف نعرف أن هذا فعلا مختلف؟

يُجيب باروخ كيميرلنيج وهو من بين المختصين بعلم الاجتماع “”الإسرائيلية” الذين تعاملوا مع ادعاء “خصوصية” الصهيونية”، إذ عرّف المشروع الصهيوني على أنه “فئة فرعية من الاستعمار، وموضَع الصهيونية السياسية في فترة الاستعمار الأوروبي التي رأت في ضمنية حق الأوروبيين في كل أرضٍ غير أوروبية وُجدت.”

أما الشعار المشهور للكاتب اليهودي بريطي زانجبيل “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، كان فعلًا قاعدة بنيوية أو دعاية صهيونية تغلغل فيها علم التاريخ الصهيوني، التاريخ نفسه الذي تجاهل كليّا ما كتبه أحد مؤسسي الروح الصهيونية في مقالته “حقيقة من أرض “إسرائيل” والتي يقول فيها: “كنا معتادون نحن الذين في الخارج على أنّ أرض “إسرائيل” كلها بمثابة الأرض البور بلا زرع، والذي يريد شراء أرضها يستطيع فعل ذلك متى أراد، لكن الحقيقة لم تكن كذلك، ففي كل الأرض كان من الصعب إيجاد بقعة غير مستصلحة ومزروعة”، وتبيّن هذه الشهادة أن فلسطين لم تكن أرضًا بورًا، بل كانت مكتظة بالسكان، ولم تكن متروكة كما تم وصفها في التاريخ الصهيوني.

بينما البروفيسور جفرائيل بار، أحد المختصين البارزين بدراسة الشرق الأوسط في الجامعة العبرية، كتب أنّ “التغيّرات الاقتصادية في فلسطين في القرن الـ 19 كانت ضئيلة جدًا ليس وحدها فقط إنما بالمقارنة مع بلادة مجاورة”، وأظهر أنّ هذه الادعاءات غير صحيحة تاريخيًا، وهي تعكس نظرة الغرب الاستشراقية إلى الشرق.

وبناء القنصلية البريطانية، والفرنسية، والتمثيل لألمانيا والنمسا في يافا وعكا وحيفا يدلُّ على التطور الاقتصادي لفلسطين، والذي يتنافى مع ادعاءات المؤرخين الصهاينة، كما يعكس ذلك الازدهار الاقتصادي الكبير في السنوات الـ 25 ما بعد حرب القرم (1854-1856)، والذي يظهر أيضًا في القطاع الزراعي الذي نجح لدرجة أن التصدير فاق الاستيراد حينها.

ومع مجيء المهاجرين اليهود الأوائل إلى فلسطين، كانت الإمبراطورية العثمانية في أعقاب حركة إصلاح كبرى باسم “تنظيمات”، إذ بين السنوات 1878-1939 قاموا بإصلاحات في الضرائب، بقوانين استئجار الأراضي وإدارتها.

ويرى جرشون شابير يرى أن التنظيمات خلقت الظروف القانونية والاقتصادية المناسبة والتي استعلمت كأساس للاستعمار الصهيوني، وذلك في كتابه:

ومع التغلغل الاقتصادي الأوروبي الذي حوّل الشرق الأوسط والإمبراطورية العثمانية إلى منتِج ومصدر المواد الخام للسوق وللصناعة الأوروبية، أصبح التغلغل الصهيوني ممكنًا رغم معارضة السلطات العثمانية من حين لأخر، وذلك بإطار التغلغل الأوروبي وتدخل القوى الأوروبية في أماكن السيطرة العثمانية.

ورغم أن الظروف السياسية العثمانية لم تكن سهلة للاستيطان الصهيوني، لا يمكن القول إنه لم يكن محميًا، ويتبيّن هذا بإجبار القوى العظمى الأوروبية للسلطات العثمانية بمنح اليهود “تنازلات” وهي حقوق كانت تعطي للسكان الأجانب، مكانة ناشئ خارج الأرض وحقوق مفضِّلة أخرى.

ويشرح جرشون شابير موضوع الحماية بأنها كانت “عن طريق التنازلات والتدخّل الدائم للسفارات الأوروبية في إسطنبول والقنصليات الأجنبية في القدس، وذلك بقمع أي اعتراض تركي على هجرة اليهود.”

رابط المادة: https://bit.ly/2CtUqkc