دافيد بن غوريون

7 أغسطس 1937

ترجمة العساس | للمرّة الأولى في تاريخ المؤتمر، نجتمع لبحث قضيةٍ خلف الأبوابٍ المغلقة، فهذه المرّة، نحن بحاجة لمخاطبة ذاتنا. نحن أمام قضية أساسية تلامس جوهر الفكرة الصهيونية وتشكل نقطةً محورية في التاريخ اليهودي. نحن هنا لنناقش مسألةً تمس جذور الصهيونيّة وروح الأمّة العبريّة. من المهم أن يختلي كلٌّ منا بنفسه ويبوح بما في قلبه، كلَّ ما في قلبه. معًا سنبحث هذه المسألة لنقرر مصير الصهيونية والصهيونية فقط. الصهاينة وحدهم، المؤمنون بأحقية ورغبة وقدرة الشعب اليهودي على استعادة استقلاله الكامل في وطنه القومي، هم دون سواهم أصحاب القرار في هذا الأمر المصيري.

لن نبقى أقليّة في الوطن

أقول لكل من يناهض حقّنا في الاستقلال بوطننا القومي: تنحوا جانبًا!

حرية الرأي والفكر هي حقٌ لكل يهودي، لكن قدر الشعب اليهودي سيكتب فقط بأيدي أولئك المرتبطين بالشعب والمؤمنين بمستقبله الوطنيّ. في غفلةٍ من الشعب اليهوديّ، تُحاك الآن المؤامرات -سرًا وجهرًا- للإطاحة بطموحاتنا وتقويض حلمنا بالاستقلال. خلال اجتماع مجلس اللوردات البريطانيّ الأخير، اقترح شخص يهوديّ صاحب مكانة مرموقة جعلَ أرض “إسرائيل” جزءًا من فدراليّة عربيّة كبيرة، والسماح بهجرة مُقلّصة لليهود إليها بحيث لا يتجاوز الوجود اليهودي ما نسبته 40% من إجمالي سكان هذه الأرض. لقد خرج هذا الاقتراح النجس من فم اللورد صموئيل، ألا يعلم أنه بذلك يخذل إخوته وأبناء شعبه في المنفى الذين علقوا آمالهم عليه كيهودي؟ هل يدرك أنه بصفته إنجليزيًّا -باعتباره رجلًا إنجليزيًا نبيلًا يفتخر باستقامته ونزاهته- فهو بهذا الاقتراح يدعو الشعب الإنجليزي للتخلي عن وعده وفضّ تعهده التاريخيّ الذي أعطاه لشعب “إسرائيل”؟ ضجّة اقتراح صموئيل وصلت أصداؤها إلى العراق، في المذكرة التي قدّمتها حكومة العراق قبل أيام إلى لجنة الانتدابات في عصبة الأمم.

الحكومة العراقيّة تقترح بحث قضيّة اليهود على أرض “إسرائيل” كأقليّة أبديّة داخل مدينة فلسطينيّة عربيّة. هل يظنون أن العالم قد نسي المصير الفظيع الذي لاقته الأقليّة الآشوريّة في العراق بعد زوال الانتداب؟ ليس من العجب أنّ مرتكبي المجزرة الآشوريّة قد أعجبهم اقتراح صموئيل. لكن الشعب اليهودي استوعب ما يعنيه ظهور هذا اللورد المحترم بالشكل الصحيح. إنها ليست المرّة الأولى التي يرتكبون فيها أمورًا غير معقولة بيهود أفراد، بمجموعات يهوديّة و”بكيبوتسات” يهوديّة محليّة.

لكن هذه المرة، مبادرة اللورد صموئيل لا تمس فقط اليهود كأفراد ومجموعات ومجتمعات “كيبوتس” محلّية، إنها تحكم على اليهود في شتى أنحاء المعمورة بالبقاء أقليّة داخل منفى عربيٍّ في حال أرادوا الهجرة إلى وطنهم في أرض “إسرائيل”. دعوته هي حكم بالعذاب الأبدي للأمة اليهوديّة الحاضرة وأجيالها اللاحقة، جيلًا بعد جيل. لا هذا المجلس ولا الشعب اليهودي، لا أحد منّا سيناقش ويبحث أي اقتراح يشكك بحقنا أو يهدد ببقائنا كأقليّة يهوديّة على أرض الوطن. إن أول ما سنقوم به اليوم هو اجتثاث أي تفكير نجس وقذر من هذا النوع من خياراتنا.

حقّنا بالوطن الكامل .. مُقدّس

لم ولن يكون لدينا أبدًا أي شك في حتمية وحدة أرض “إسرائيل” ولا في علاقتنا وحقنا بها كاملة، ومن اللازم أن نؤكد من على منصتنا الصهيونيّة هذه أنْ لا تنازل عن أي جزء من هذه الأرض. وحدة أرض “إسرائيل” في هذا الوقت للأسف ليست حقيقة سياسيّة. على مدار أجيال لم تكن حقيقة سياسيّة، فالأرض مُجزّئة وممزقّة لأربعة أجزاء: شماليّة، شرقيّة-شماليّة، شرقيّة-جنوبيّة، جنوبيّة. لكن في المكان الأكثر وفاءً -في قلب الشعب اليهودي- وحدة هذه الأرض منقوشة بأحرف سرمديةٍ لا تزول.

الصهيونيّة .. الحل الكامل لقضيّة الشعب

لا نختلف فيما بيننا حول الهدف الأوحد والأسمى للصهيونية، ألا وهو الاستقلال الكامل والأبدي بالأمة اليهودية على أرض “إسرائيل”. حركة العصابات والكتائب التي انبثقت من رحم معاناتنا لتكوين مستعمرات يهودية، والتي تؤمن بحقها وحدها في تحديد الطريقة لتحقيق حلم الدولة العبريّة، تدمر في واقع الأمر أحلام أمتنا. الصهيونيّة الثابتة -كثبات شعب “إسرائيل” على مدى العصور- رسخت فينا الإيمان أن في أرض “إسرائيل” الموحدة مستقبل الحل “لقضيّة اليهود” بشكل كامل وشامل. لا حلًا جزئيًا لكل الشعب، ولا حلًا كاملًا لجزء من الشعب، إنما حلًا شاملًا للشعب بأكمله.

المركز الروحي للشعب اليهودي لا يكون إلا في مركزه الوطني، هذا أمر مسلمٌ به لا يقبل النقاش ولا البحث.

من الذي حدّد قدرة أرض “إسرائيل” على استيعاب اليهود؟

كل مشروع لا يأخذ بعين الاعتبار احتواء جميع الإسرائيليين على أرض الوطن مرفوض، لأنه يتناقضُ ولبّ الفكر الصهيوني، بل إن كل تبرير لأيٍ من هذه المشاريع هو تشويه لصورة الوطن اليهودي. محاولة الدفاع عن مثل هذا الطرح أو التشكيك في إمكانيّة احتواء أرض الوطن لكل اليهود هي أفكارٌ خبيثة من مصادر كافرة بالصهيونية. أما المقارنات الإحصائية مع الكثافة السكانية في فرنسا أو بلجيكا أو غيرها من الدول لبيان عدم واقعية فكرة الوطن القومي اليهودي فهي خاطئة ومضللة.

كم كانت قدرة الاستيعاب السكانية لآلاف الدونمات من الرمل الجرداء قرب يافا عندما جئنا قبل ثلاثين سنة إلى أرض “إسرائيل”؟ هل خمَّن أي خبير علمي أن هذه الأراضي الرمليّة ستكون قادرة على احتواء 150 ألف يهودي في تل أبيب العبريّة التي بنيت عليها بسواعدهم؟ هل وصل هذا المكان لذروة سعته؟ هل وصلت حيفا إلى قمة سعتها؟ هل سنكوّن الوطن في هذين المركزين فقط؟ أو في كلّ نقاط استيطاننا في كل المساحات الكثيرة لمراكز الاستيطان اليهودي التي لم نستوطن بها بعد؟ قدرة فرنسا على استيعاب الفرنسيين غير مرتبطة بقدرة الأراضي على استيعاب السكان وإنما بقدرة الشعب الفرنسي على الازدهار والتطور. لو أن ملايين الفرنسيين هم مثلنا مهجرون ومضطهدون في المنفى، لكانت فرنسا قد أوجدت بداخلها المكان لاحتوائهم.

كما أنّه لمن الغريب الادعاء بعدم قدرة بعض أجزاء أرض “إسرائيل” على استيعاب السكان دون غيرها. من المؤكد أنّ قدرة استيعاب السكان في جبال يهودا (جبال الخليل) تختلف عنها في وادي السامرة (منطقة نابلس) والأردن وباقي وديان أرض “إسرائيل”، لكن لماذا نتجاهل قدرتنا على الاستيطان -ولو بنسبة ضئيلة- في سلاسل الجِبال أو في التجمعات السكانية في النقب؟

لا للتأجيل، نعم للنضال حتى النهاية

لا نستطيع تجاهل حتميَّة التدرج في تحقيق الرؤية الصهيونيّة، فالخلاص الكامل لن يأتي فورًا. رجوع شعب “إسرائيل” إلى أرضه وبناء وطنه عمل دؤوب سيُنجز على مدى أجيال عدة.

ستحقّق الصهيونيّة على مراحل، مرحلة تلو الأخرى. لكن علينا أن لا نسمح باستخدم هذا التدرج كذريعة لمنعنا من تحقيق هدفنا. القائلون “لقد انتظرنا ألفي سنة وباستطاعتنا الانتظار بضع عشرات أو مئات السنين الأخرى حتى نهاية الزمان” يتنكّرون للصهيونيّة. الوقت ليس في صالحنا والتسويف من شأنه أن يدمر الحلم الصهيوني. ليس لدينا الكثير من وقت لنضيعه. أنبياؤنا تنبّؤوا بِـ”نهاية الزمان” قبل ألفين وخمسمئة سنة، فإن حانت ساعة النهاية -ونحن اليوم نؤمن بقرب حلولها أكثر من أي وقت مضى- لن ننجو من الحساب العسير. انقضت مئات الأجيال منذ زمن الأنبياء، وأؤمن من كلا المنظورين اليهوديّ والإنسانيّ أننا بالفعل نقف على حافة النهاية.

لنا حقّ الدولة.. للعرب حق الإقامة في هذه الدولة

ليس من الضروري أن نتبنى أي تغييرات محوريّة فيما يختص بتعاملنا مع العرب. من المثير للسخرية اكتشاف البعض فجأةً وجود ثلاثمئة ألف عربي في أرض دولتنا اليهوديّة المستقبلية. في الواقع، رفض العرب اقتراح التقسيم. فسواء استمر الانتداب البريطاني أو لم يستمر، إن قسمت هذه الأرض أو لم تقسم، لن يغير ذلك من الواقع شيئًا، سيبقى الحال كما كان قبل الانتداب وسيستمر كذلك بعده، بضع مئات الآلاف من العرب على هذه الأرض وملايين آخرون منهم في الدول المُجاورة. ليس الانتداب من وزعهم وليس التقسيم من سيجمعهم. إنّ واقع العرب هذا هو حقيقة تاريخيّة قد تمثل مشكلةً لنا، مشكلة يصعب علينا حلها. فلا يمكن لأي تغيير في نظام الدولة أن يجلب لهم الحل. نحن الصهاينة، المؤمنون بحقنا القطعيّ، غير الممنوح للشعب اليهودي بالرجوع إلى أرضه وتعميرها لا نُلغي حقّ وجود العرب سُكان هذه الأرض. لهم حقوق السُكن ولنا حق تأسيس الدولة والنظام. قضيّة وجود وبقاء الشعب العربيّ غير متعلّقة بهذه الأرض. الأمّة العربيّة لا ينقصها وطن، بل على العكس، لقد حظيت بأوطان كثيرة وواسعة، وبوسعها احتواء واحتضان عدة ملايين أخرى. العرب سُكان أرض “إسرائيل” من العرب هم فقط نسبة قليلة وغير مهمّة من مجمل الشعوب العربيّة. إعادة إحياء الوطن العبري في إيريتز (أرض إسرائيل) لا يهدّد استقلال الأمّم العربيّة في أوطانها ولا يهدّد وجود العرب القلائل سُكان هذه الأرض. فمن منظور أخلاقيّ وسياسيّ وسكانِّي واقعي ليس هنالك تناقض بين إقامة دولة إسرائيل واحتضانها لجموع الإسرائيليين -الراغبين والمحتاجين للانتقال إليها- واستمرار الوجود العربي والحفاظ على حقوق العرب من ساكني هذه الأرض. نحن نسعى لاستعادة وطننا من جديد، ولا نحتلّ أرض الآخرين. من العبث الاستمرار في هذا الجدل السياسي العقيم المتعلق بقضية العرب، فقد نال أكثر من حقه بكثير.

ما هي الخطوات القادمة في الطريق إلى الهدف؟

على ماذا نتجادل؟ ما هي القضية السياسية المطروحة هنا الآن في هذا المؤتمر؟

مشروعنا الصهيونيّ وأهدافه النهائيّة ليسا القضية. قضيتنا الآن هي الخطوات التي تقربنا من تحقيق هذه الأهداف. والسؤال هو:

انتداب بريطاني.. أم دولة يهوديّة؟

والخيار الذي عُرض علينا علينا ليس بخيار أبدًا. لا أحد ممن يدعمون الانتداب واثقٌ بأن هذا الانتداب سيدوم للأبد، كما أنْ لا أحد ممن يتبنون خيار الدولة اليهودية يقبل بأن تتقلص الدولة لتنحصر في جزء محدود من هذه الأرض للأبد.

نحن أمام مرحلة جديدة في الطريق نحو تحقيق الرؤية الصهيونيّة، ونحن دون غيرنا من بيدنا قرار تحديد طبيعة هذه المرحلة. وعلى عتبات هذه المرحلة، نقف أمام خيارين: انتدابٌ أو دولةُ – انتدابٌ بريطانيٌ أو دولةٌ يهوديّةٌ؛ الأولى يمنحنا الأجزاء الغربيّة من هذه الأرض ؛ أما الثاني فيضمن لنا كامل مساحة وطننا القومي “إسرائيل”؛ والخيار لكم..

إن لم يكن هناك ما يضمن بقاء الانتداب البريطاني فلا ضمان أيضًا لإقامة الدولة اليهوديّة

ولضمان قيام إسرائيل فعلًا، لا بد أن تُعلن الدولة فورًا، ولو على جزء فقط من هذه الأرض؛ ولكن حتى تعلن هذه الدولة، سيكون بقاء الانتداب بمثابة الضمان لنا من تبدد هذا الحلم، وعليه فأنا على استعداد لأحارب من أجل بقاء الانتداب. في الوقت الراهن، هنالك فقط اقتراح بإقامة الدولة العبرية من قبل الهيئة الملكيّة البريطانية بالنيابة عن مجلس الوزراء البريطاني. لكن طالما أنْ ليس أمامنا ما يضمن استمرار الانتداب البريطاني في المستقبل، فلا يوجد بالتالي ما يضمن لنا إقامة الدولة اليهوديّة في المستقبل إن أجلنا القرار.

 

المصدر : http://benyehuda.org/ben_gurion/maaraxa29.html